ليس من شخصية سياسية في التاريخ المعاصر لمنطقتنا، يُمكن لها أن تشغل مكانة "المجرم العام"، مثل القيادي العسكري في النظام العراقي السابق علي حسن المجيد، أو "علي الكيماوي" كما جرت تسميته. فهو، حسب سيرته الذاتية الأكثر حيادية، بزّ كل أعضاء ذلك النظام الدموي بأفعاله تجاه المدنيين العراقيين، إذ لم تسلم منطقة أو جماعة أهلية عراقية من أفعاله: عشرات الآلاف من الأكراد الذين أبادهم أثناء قيادته لحملة "الأنفال" الشهيرة أواخر الثمانينات، وكذلك نظراؤهم "الشيعة" في الجنوب بعد سنوات قليلة. أبناء قبيلة الجبور "العربية السُنية" عقب خلافهم مع الرئيس السابق. وحتى نجلا شقيقه وصهرا الرئيس "حسين كامل المجيد وصدام كامل المجيد"، اللذان انشقا عن النظام السابق، وعفا عنهما رئيس النظام صدام حسين، لكن "علي الكيماوي" أبى إلا أن يُنفذ مجزرة ضدهما، سُميت "الصولة الجهادية"، أصابت حتى حفيد الرئيس صدام نفسه، بوحشية منقطعة النظير.
لكن، وبعد كل هذه الهوية السياسية والسيرة السلوكية والسجل الجنائي الواضح للشخص، ماذا تُخبرنا وسائل التواصل الاجتماعي عنه، حسبما ينشر ويتفاعل ويُعلق أبناء منطقتنا حول هذه الشخصية- العراقيون منهم تحديدا- وأبناء دول الجوار بنسبة أقل!
فلو كتبت اسمه على وسائل التواصل الاجتماعي الأكثر شعبية، مثل "تيك توك"، و"فيسبوك"، و"يوتيوب"، ستحصل على فيض من المقاطع المصورة، التي تجسد علي الكيماوي كقائد عسكري مِقدام، مقاطع مُرفقة بالأهازيج والأغاني الحماسية، وإلى جانبها مقاطع أصغر لبعض عباراته الرعناء تجاه القاضي والمحكمة التي حاكمته على الجرائم التي اقترفها، ومعها جميعا سيل من التعليقات الغارقة في الإعجاب والمدح والحماسة، المغلفة بذكورة سميكة، تشيد ببطولة وشجاعة وصلابة الكيماوي، معتبرة إياه بطلا عاما.
ربما يحصل الباحث على عدد قليل ونادر مناقض لذلك، من بعض أبناء وأحفاد ضحايا أفعال هذا الشخص، وإن حدث وعثر على مقاطع شعبية الانتشار ناقدة "للكيماوي"، فستكون بعض المقاطع المصورة له، أثناء مشاركته في حفلات الرقص الشعبية في العراق "الكاولية". التي سيعتبرها عوام المُعلقين، مسا بالحشمة والآداب العامة، تجاوزا لما يعتبرونه الخطوط الحمراء والحياء العام والمسألة الأخلاقية في مجتمعاتنا، إساءة لما يتوقعونه من شخص في موقع قيادي من البلاد.
يُعطي مثال القيادي الدموي العراقي هذا مؤشرا نموذجيا لما ترتكن إليه مجتمعاتنا من أفكار ورؤى وأشكال وعي تجاه القضايا الأكثر عمقا مما هو مباشر، مثل هيكل المسألة الأخلاقية وتعريف الناس للشر وآلية خلقهم لـ"البطل" والأمثولة، وصورة الذات في الوجدان الجمعي ونوعية ما يثير رفضهم وهيجانهم ضمن الفضاء العمومي، ونوعية الحكايات والسرديات والمعطيات التي تبقى في ذاكرتهم الجمعية، ويعتبرونها قيمة ومعنى للحياة، وما يناظرها من حكايات وقصص يلفظونها من تلك الذاكرة، ويعتبرونها مجرد هوامش وأشياء لا قيمة ومعنى لها. وهي أشياء تكشفها وسائل التواصل الاجتماعي بوضوح منقطع النظير، لأنها الفضاء العام الأكثر استرخاء، الذي يسمح لأكبر عينة مفتوحة ومؤلفة من كل أعضاء المجتمع تقريبا، بأن تحيك صورتها العامة بكامل إرادتها الحرة.
يُعطي مثال القيادي الدموي العراقي هذا مؤشرا نموذجيا لما ترتكن إليه مجتمعاتنا من أفكار ورؤى وأشكال وعي تجاه القضايا الأكثر عمقا، مثل هيكل المسألة الأخلاقية
وما ينطبق على مثال القيادي الدموي "علي الكيماوي" بكثافة وأغلبية واضحة على وسائل التواصل الاجتماعي العراقية مثلا، يقول إن القتل المفتوح لعشرات آلاف المدنيين المسالمين ليس مسألة أخلاقية قط بالنسبة لمجتمعاتنا، ولا يثير الهيجان والرفض، لكنه شيء خفيف وباهت، غير قابل للاستقرار في الذاكرة، دون قيمة وقدرة على أن يكون حكاية كُبرى وجوهرية. بل يُمكن لهذا القتل العمومي للمدنيين أن يكون منصة كبرى لصناعة البطل واختلاق الأمثولة.
وعلى مستوى رديف، فإن أشياء مثل الحياة الخاصة والخيارات الجسدية وأنواع الرفاهية الذاتية، قد تثير كل أشكال الغضب، وتثير الوجدان والانفعال الأخلاقي، وتشغل الأماكن والحساسيات التي من المفترض أن تُثار أثناء متابعة أو رؤية الأعمال الأكثر وحشية. فهذه القضايا العادية من الحياة الخاصة، ما تلبث أن تتحول إلى قضايا عامة، إلى شيء خالد في الذاكرة الجمعية، وآلية للتعبير عن أخلاقية الذات وصورة النفس النقية والطاهرة، على العكس تماما مما من المفترض أن تفعله جريمة مثل القتل العام.
ليست صورة "علي الكيماوي" على وسائل التواصل الاجتماعي إلا واحدة من نماذج لا تُعد، يُمكن عبر متابعة أي منها على وسائل التواصل معرفة ما يُمكن تسميته "العقل الباطن الجمعي" لهذه المجتمعات، خصوصا في وسائل التواصل الأكثر شعبية وانتشارا، مع احترام تام للنسبية في كل تفصيل، لكنها نسبية ليس لها أن تدفعنا للعدمية وإغلاق أعيننا أمام فيضان الأغلبية المطلقة.
في كتابه المهم "أوروبا والغجر"، يتابع المؤرخ واللغوي الألماني كلاوس مايكل بوغدال "معركة كبرى"، وهي صورة وتعريف "الغجر" بالنسبة للمجتمعات الأوروبية طوال قرون ومناطق مختلفة من القارة الأوروبية. وفي محصلة متابعة رحلة المؤرخ بوغدال، يجد القارئ نفسه أمام معرفة ومسيرة تعارف طويلة على المجتمعات الأوروبية نفسها، وليس على الغجر.
وحسب آلية وصورة وتعريف وتعامل المجتمعات الأوروبية مع الغجر ومسألتهم، فقد كانوا بمعنى واضح إنما يكشفون ويقولون الكثير من الأشياء عن أرواحهم وذواتهم الجمعية. وهكذا هي وسائل التواصل الاجتماعي بالنسبة لنا.