كاليدونيا الجديدة تنفجر في وجه ماكرون

فرنسا في قلب مسرح المواجهة الصينية- الأميركية

أ ف ب
أ ف ب
شخص ينظم السير عند حاجز في منطقة ماجنتا تور في مدينة نوميا في كاليدونيا الجديدة وقربه علم لقومية الكاناك

كاليدونيا الجديدة تنفجر في وجه ماكرون

تحاول السلطات الفرنسية استعادة السيطرة على الوضع في كاليدونيا الجديدة، أحد الأقاليم الفرنسية ما وراء البحار والواقع في المحيط الهادئ. ورغم فرض حالة الطوارئ وإرسال تعزيزات الجيش والجندرمة (الدرك الوطني) والشرطة، فإن الاحتجاجات وأعمال الشغب والحرائق والاشتباكات وحواجز الغاضبين، تستمر منذ أكثر من أسبوع، مما أدى إلى مقتل ستة أشخاص بينهم اثنان من رجال الجندرمة. وتأتي الاحتجاجات والعنف السياسي بسبب قرب عقد البرلمان الفرنسي مؤتمرا لإقرار اقتراح تعديل دستوري يسمح بتغييرات على قوائم الناخبين في كاليدونيا الجديدة، مما يقلل من تأثير الاستقلاليين الذين فجروا الوضع كي يتم سماع صوتهم.

زيادة على استخدام القوة لاحتواء الوضع، تقرر حظر تطبيق "تيك توك" في الأرخبيل وهذه سابقة في تاريخ فرنسا حسب جاك توبون، وسيط الجمهورية السابق (المدافع عن الحقوق حتى 2020). لكن هذه الإجراءات تبدو غير كافية من دون تأجيل انعقاد مؤتمر البرلمان في يونيو/حزيران القادم (المؤتمر مؤلف من الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ معا) ومن دون عودة الحوار بين السلطة والمكون الاستقلالي.

في هذا الإطار، جرى الإعلان عن زيارة إيمانويل ماكرون إلى الأرخبيل في 22 مايو/أيار من أجل إطلاق هيئة للحوار وتصحيح المسار السابق. هكذا يتوجب استيعاب وزن الماضي والذاكرة التاريخية. وتنبيه الحكومة الفرنسية للرهانات والتغيرات الجيوسياسية في منطقة المحيط الهادئ من أجل معالجة المعضلة ووقف الانزلاق إلى الحرب الأهلية، والحفاظ على بقاء وجود فرنسا وراء البحار ومنع تكرار نكسات فرنسا الأخيرة في الساحل الأفريقي.

البعد الجيوسياسي

لا يمنع تصدع العولمة في هذه الحقبة من احتدام التنافس العالمي حول المناطق الاستراتيجية. لذا تكتسي أقاليم فرنسا ما وراء البحار مزيدا من الأهمية لأنها تعزز القوة البحرية وامتداد سيادة باريس. ذلك أنها توفر 97 في المئة من المنطقة الاقتصادية الخالصة لفرنسا، أي 10.540.727 كيلومترا مربعا من إجمالي 10.911.823 كيلومترا مربعا، وهي حيوية بالنسبة للدفاع من حيث التموضع المسبق للقوات التقليدية والردع النووي، والدفاع الفضائي، والدفاع السيبراني.

ومع التحول الاستراتيجي نحو منطقة المحيطين الهندي والهادئ، تجد فرنسا نفسها جغرافياً في قلب مسرح المواجهة الصينية- الأميركية على القيادة العالمية بفضل مناطق ريونيون ومايوت وكاليدونيا الجديدة وبولينيزيا الفرنسية وجزر واليس وفوتونا، كما أنها الدولة العضو الوحيدة في الاتحاد الأوروبي ذات الوجود الدائم هناك، مما سمح لها بلعب دور ريادي في اعتماد استراتيجية الاتحاد الأوروبي في هذا المجال.

منذ عقود تتوالى التوترات بين السكان الأصليين (الكاناك) الذين يسعون إلى الاستقلال، وبقية السكان من أصول فرنسية وأوروبية المتمسكين ببقاء الإقليم كجزء من فرنسا

انطلاقا من هذا البعد الجيوسياسي، لا تغفل باريس في حساباتها موقع كاليدونيا الجديدة بالقرب من أستراليا وليس بعيدا عن  مسرح طموح الصين وأهميته في التنافس الدولي الدائر في المحيط الهادئ، ونظرا لموارد الإقليم الهامة من المعادن خاصة النيكل والكوبالت. 
وتبقى الأبعاد الداخلية هي الأساسية. فمنذ عقود تتوالى التوترات بين السكان الأصليين (الكاناك) الذين يسعون إلى الاستقلال، وبقية السكان من أصول فرنسية وأوروبية (غالبيتهم من "الكلدوش") المتمسكين ببقاء الإقليم كجزء من فرنسا وذلك منذ استعمارها لهذا البلد عام 1853، في عهد الإمبراطور نابليون الثالث.

التسلسل التاريخي لأزمات كاليدونيا الجديدة 

اندلعت الاضطرابات الحالية على خلفية اقتراح تعديل الدستور الفرنسي من أجل تركيبة انتخابية أكثر ملاءمة للموالين، وبروز المخاوف عند "الكاناك" من زيادة تهميشهم، وهم  الذين عانوا من سياسات الفصل الصارمة والتمييز على نطاق واسع.
من أجل الإحاطة الكاملة بالموضوع، لا مناص من العودة إلى الجذور التاريخية وخاصة خلال الثمانينات، حين  تأسست في 1984 "جبهة التحرير الوطني الكاناكي الاشتراكي" بزعامة جان ماري تجيباو المؤيد للاستقلال، وكان يواجهها اليمين الفرنسي المحلي بقيادة جاك لافلور. ووصل  العنف إلى ذروته أيضا بسبب  قانون انتخابي ونظام جهوي (سمي نظام  وزير الداخلية الأسبق برنار بونس) وتدرج إلى صدام وأزمة احتجاز رهائن من رجال الدرك الفرنسي  في كهف أوفيا عام 1988، وأدت أزمة الرهائن إلى إجراء مفاوضات تحت رعاية رئيس الحكومة  حينها ميشال روكار في  عهد ميتران. وأسفرت المفاوضات والترتيبات الانتقالية عن توقيع اتفاق نوميا عام 1998 من الاستقلالي تجيباو، والموالي لافلور، تحت رعاية رئيس الحكومة الأسبق ليونيل جوسبان في عهد شيراك، ونص الاتفاق على منح الإقليم المزيد من الحكم الذاتي والسماح بإجراء ثلاثة استفتاءات على الاستقلال، على أن يكون التصويت مقتصرا على الأشخاص الذين أقاموا في كاليدونيا الجديدة قبل عام 1998، في خطوة تهدف إلى منح تمثيل أكبر لسكان الكاناك الأصليين. وبالفعل، أدى  الاستفتاءان في عامي 2018 و2020، إلى رفض الاستقلال، ولكن بهامش ضيق جدا، وكانت جائحة كورونا وراء الجدل حول إجراء الاستفتاء الثالث في ديسمبر/كانون الأول 2021، الذي أعطى غالبية ساحقة للبقاء في الحضن الفرنسي نظرا لمقاطعة "الكاناك" الذين فقدوا الكثير من الضحايا في الجائحة وطلبوا التعديل. ولكن حكومة إليزابيث بورن في عهد ماكرون رفضت طلبهم مما أسفر عن عودة التوتر من جديد إلى الإقليم. 

أ ف ب
جندي من قوات نيو زيلندا الجوية يشارك في إجلاء السياح الأجانب من كاليدونيا الجديدة في 21 مايو

واعتمادا على نتائج الاستفتاءات الرافضة للاستقلال، اقترحت الحكومة قانونا انتخابيا جديدا سيسمح في حال تطبيقه بتمكين نحو 25 ألف ناخب جديد من المشاركة في الاقتراعات الجهوية، وهذا ما اعتبره التيار الاستقلالي خرقا لاتفاق نوميا لأنه يعيد  النظر في "مسار استقلال وتحرير" الجزيرة خلال فترة الـ20 سنة المنصوص عليها في اتفاق  نوميا لسنة 1998. ولهذا، ركز التيار الاستقلالي وقوى فرنسية يسارية معارضة على المطالبة بـ"سحب القانون وإنشاء لجنة حوار برئاسة شخصية تضمن العدالة".

نص الاتفاق على منح الإقليم المزيد من الحكم الذاتي والسماح بإجراء ثلاثة استفتاءات على الاستقلال

وفي موازاة الاحتجاجات في الأرخبيل، وصف جان لوك ميلونشون زعيم "فرنسا الأبية" خطوة الحكومة بالمصادقة على القانون الانتخابي بأنها نوع من "الاستعمار الجديد"، كما تم تنظيم تجمع باريسي كبير لمساندة الشعب الكاناكي والمطالبة بحل شامل.
ويرى الاستقلاليون "الكاناك" أن موقف باريس غير حيادي وهي ترفض الاستقلال مغلفة ذلك من الناحية الفنية بالانحياز للسكان الكلدوش في القوائم الانتخابية كي تستمر في بسط السيطرة. ومع تدهور الوضع الاقتصادي وأعمال النهب خلال الاحتجاجات تخشى  السلطات من تنشيط حركة استقلال مسلحة ومن حرب أهلية تشبه ما جرى في الجزائر سابقا.

أ ف ب
ناشطان استقلاليان في نوميا في 21 مايو

وتحت غطاء ضرورة استتباب النظام قبل الحوار، يتشدد الرئيس ماكرون وحكومته ووزير داخليته الذي يدير الملف. لكن إذا لم يكن هناك ميشال روكار جديد يقود الحوار، فيمكن أن يذهب الوضع إلى الأسوأ. 

تداعيات القطيعة

بعد سلسلة النكسات في أفريقيا، يبرز في أقاليم ما وراء البحار تحد جديد أمام الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي قرر تغليب التشدد من أجل احتواء الأزمة، لكن نظرا لخطورة الموقف قرر الإليزيه نقل إدارة الملف إلى رئيس الحكومة غبريال أتال، الذي لا يملك خبرة في هذا الملف، من أجل عدم إعطاء إدارة النزاع الطابع الأمني الحصري من خلال وزارة الداخلية. بيد أن هذه الخطوة تبقى ناقصة من دون وجود إرادة سياسية عند الحكومة وغياب شخصيات محلية محبذة للحوار على مثال تجيباو ولافلور اللذين وقعا اتفاق 1998. 
يتم التذرع بالتدخل الخارجي نظرا لموقع الأرخبيل الجغرافي. وهذا بالطبع يدفع  القوى الكبرى الإقليمية وأبرزها الصين وأستراليا كي تتطلع  نحوه. وبعد رفع بعض المحتجين أعلام أذربيجان (التي تدين تدخل فرنسا في دعم أرمينيا) لم يتردد وزير الداخلية الفرنسية جيرار دارمانان بالغمز من قناة باكو واتهامها بتحريض "الانفصاليين". لكن مهما كانت حقيقة أو حجم التدخل الخارجي، يبدو دوره محدودا في تحريك الوضع. 
وفي إطار أقاليم ما وراء البحار، طالب رؤساء مناطق ريونيون وغوادلوب والمارتينيك وغويانا الفرنسية، الحكومة في باريس بالسحب الفوري لاقتراح إصلاح الهيئة الانتخابية في كاليدونيا الجديدة، واعتبروا أنه يمثل الرد السياسي الوحيد ضد استشراء العنف. لكن الحكومة الفرنسية لا تزال ترفض التراجع عن مشروعها، مما يهدد بمأزق يقود نحو التدهور. ومن هنا تطرح حلول وسطية أبرزها تأجيل انعقاد مؤتمر البرلمان وإطلاق عجلة الحوار. 
 
تفرض الوقائع ودروس التاريخ تفضيل الحوار على استمرار القطيعة، ومن أجل إيجاد المخارج ينبغي اللجوء إلى الوساطة والتحكيم بدلا من تحفيز القبضة الأمنية.

font change

مقالات ذات صلة