هالة التقديس وفتاوى التكفير

هالة التقديس وفتاوى التكفير

يتحمّل بعض فقهاء المسلمين المسؤولية عن انتشار التكفير وشيوعه بين الناس. أقول بعضهم من باب الاحتراز، وإلا فإن من زاولوا تكفير الآخر كثر للغاية، ومن كل المذاهب، وكثير من متأخريهم لا يزداد إلا تشددا وتعنتا، مهما تحدثوا عن المراجعات والإصلاحات، دون نية صادقة لذلك.

من الطبيعي لأي أمة سويّة أن تراجع تاريخها وتراثها وأن تقوم بالتصحيح الذاتي وألا تنتظر النقد الخارجي لكي تقوم بتلك المراجعات. الأمم العظيمة ينبع خيرها من ذاتها، ولا تقبل أن يصلحها غريب. لقد تحارب الأوروبيون الكاثوليك والبروتستانت لمدة ثلاثين سنة وسُفكت دماء كثيرة بسبب التكفير ثم اكتشفوا أنه لن تقوم لأوطانهم قائمة ولن تُبث فيها الحياة من جديد إن هم تمسكوا بالتكفير والإقصاء. لقد نجحوا بعد مراجعات الفلاسفة الإصلاحيين ودعوتهم الى التسامح ونقد التاريخ والتأسيس للدولة الحديثة التي لا يمكن أن ينبت فيها هذا التطرف.

تكفير الآخر هو من أعظم المصائب التي ابتليت بها هذه الأمة وهو فيها قديم مقيم، ولا أراها سارت في خط مستقيم لكي تتخفف منه، بل إن المعاصرين أشد تكفيرا من القدماء. لقد وصل التكفير عند بعض الإسلاميين المتأخرين إلى تكفير الكوكب كله بمن في ذلك المسلمون الذين يلهجون بـ"لا إله إلا الله" يرددونها على المنابر. ورد مثل هذا عن سيد قطب وعن أخيه صاحب كتاب "جاهلية القرن العشرين"، وقد كانا حقا يؤمنان بهذا، أن الناس كلها قد كفرت، لا تُستثنى منهم إلا قلة قليلة هي التي تؤمن بهذه المبادئ الخطيرة.

لم تتطور أمة وهي تدير ظهرها للمنهج النقدي والتصحيح المستمر

التكفير جريمة وشر كبير وخطر مهول يشبه انتشار مرض السرطان في الجسد، وإن كنا نريد لدولنا العربية الخير، فيتعين أن تكون هناك قوانين وتشريعات تجرّم التكفيريين وتردعهم.ولن يستطيع أحد أن يقبل ببعض التكفير ويترك بعضه، لأنك إن فتحت الباب أو تركت لعشاق التكفير مسلكا، فإنهم سيدخلون من هذا الباب لتكفير الدول والمجتمعات، ولن يقبلوا إلا بمن يكون مثلهم.

هناك في مشهدنا المعرفي، مثقفون يملكون الأدوات التي تمكنهم من المساهمة في إصلاح هذا المشهد القاتم، لكن ما إن ينتقد الباحثون والمثقفون رمزا دينيا أو داعية أو فقيها حتى يصطدموا بهالة التقديس المهولة التي صنعها المسلمون لفقهائهم. وكأن هذا الفقيه قد اتصف بالعصمة، وأن الخطأ لا يجوز عليه بحال، ومهما بذلت من جهد لتري عامة الناس بل بعض مثقفيهم ما وقع فيه الفقهاء من أخطاء كارثية، فإنهم لن يروا، بل لا رغبة لديهم في الرؤية. لن يقرأوا ولن يسمعوا. يريدون فقط أن يروا ما تعودوا على رؤيته. يريدون أن تكرر على مسامعهم قصائد المديح وعبارات التبجيل التي تظهر الفقيه وكأنه ليس بإنسان.

هذا ما تفعله هالة التقديس، إنها تفقد الناس حاسة البصر. هذا لا يعني أبدا أن الناقد هو المعصوم من الخطأ، فهو بدوره إنسان يصيب ويخطئ، لكن المسلك السوي ليس في تصنيم أيّ منهما، بل المسلك هو تقدير منهج النقد نفسه، إذ لم تتطور أمة من الأمم وهي تدير ظهرها للمنهج النقدي والتصحيح المستمر للفكر والتراث. النقد رأي يصطدم برأي، فتنتج من صراع الأفكار الحرّة عوالم أجمل. هكذا تتطور الأمم.

font change