صدرت طبعة جديدة من قصائد غير منشورة للكاتب الأميركي الكبير إرنست همنغواي بالفرنسيّة، ترجمها عن الإنكليزية روجيه ايميلينو، وتتضمن 88 قصيدة بين طويلة وقصيرة.
وهي مفاجأة مزدوجة: لأنّها منشورة للمرّة الأولى، ثمَّ لأنها للروائي والقاص الأسطوري همنغواي.
بدأ همنغواي انخراطه في الكتابة بالشعر والقصّة القصيرة، بطريقة متواضعة، ونشر بداية في كتاب واحد ثلاث قصص وأربع قصائد كانت ظهرت في مجلة "شعر" الأميركية، وكان ذلك كلّ ما لديه، ولم تحظ أشعاره باهتمام كبير أو بردود فعل إيجابيّة نقدية، ورأى بعضهم أن قصائده ليست مهمّة لكن نثره لفَتَ الأنظار إليه.
توقف همنغواي عن كتابة الشعر من عام 1935 إلى عام 1944. لكن عندما عاد إليه، ابتكر طريقة شعريّة جديدة ومختلفة عن كلّ ما سبق أن كتبه. في أواخر الحرب العالمية الثانية كتب قصيدتين طويلتين مختلفتين جدا إلى ماري ويلس، وعندها كان في حالة نفسيّة مماثلة عندما كتب سلسلة قصائد في باريس عام 1949. لكن نادرا ما تناول النقّاد هذه القصائد. ثمَّ أعاد نشر طبعات عدة من قصائده المنشورة في الولايات المتحدة خلال تلك الفترة، وكان سبب إصدارها يعتمد على شهرته كروائي. وكان الخطأ إلصاق أهمية كبيرة بهذه القصائد في المسار الفنّي. لكن الشعر كان بالنسبة إليه نقطة انطلاق خاطئة.
كتب همنغواي إلى أحد أصدقائه: "علّمني باوند أن أكتب وعلّمته الملاكمة"
لم يكن همنغواي ينوي أن يصير شاعرا، لكنه كالعديد من الروائيين، جويس، فوكنر، فيتزجيرالد، نظم عددا من الأبيات، وقد أصبح روائيّا مشهورا، وعلى الرغم من ذلك استمر في كتابة قصائد، وإن لم ينشر في المجمل سوى 25 قصيدة لكنه كان في حقيقة الأمر أكثر إنتاجا، مثلما يبين الديوان الذي صدر بعد وفاته بسنوات ويتضمن ثمانية وثمانين نصّا كتبت عام 1924، عندما صدرت روايته الرائعة، "وداعا أيها السلاح".
عندما ذهب همنغواي إلى باريس في ديسمبر/ كانون الأول 1921 قابَلَ بعد أشهر من وصوله الكاتبة والشاعرة والمسرحيّة الطليعيّة الكبيرة غيرتوود شتاين، وهي مثقّفة ثقافة واسعة وذات تجارب مهمة فكريّة وأدبيّة واجتماعيّة وسياسيّة، بل يعتبرها بعضهم من القامات الكبيرة في جرأتها، واختراقها الأنماط السائدة. إنّها من النخبة التي كانت كتاباتها "الغامضة" والمركّبة غير شعبية… فحاورت همنغواي وفتحت حقائق من مفاهيمه وثقافته ولم يمضِ وقت طويل حتى صار من تلامذتها، منبهرا بأفكارها ونصوصها، متأثرا بقصائدها، ولغتها وعالمها، لكن النصوص الشعريّة التي كتبها في تلك المرحلة لم يبدُ فيها أنه فهم جيدا ما هو اختراق الجديد والمبتكر.
لكن الحدث الثاني في تلك المرحلة أنه التقى بعد أشهر الشاعر الأميركي الكبير عزرا باوند، الذي رعاه، وحتى أُعجب بشِعره، ومعروف أن باوند من كبار شعراء العالم في تلك المرحلة، سواء بأفكارة النقدية أو بتجاربة الطليعية.
وكتب همنغواي إلى أحد أصدقائه: "علّمني باوند أن أكتب وعلّمته الملاكمة"، ويذكر أن باوند ساعد همنغواي في اكتساب اللغة الدقيقة والأحاسيس البصرية المختارة بشكل كبير. وعندما احتاج فورد مادوك إلى مدير تحرير مساعد لمجلته الجديدة، "ترانس أتلانتك"، نصحه باوند باختيار همنغواي، ومن نتائج احتكاكه بالكتّاب الكبار بدا تأثّره واضحا في القصائد التي نشرها في باريس بين 1920 و1930 وخصوصا بالشاعرين شتاين وباوند خصوصا في صوغ أسلوبه، كونه ما زال شابا يحاول التحرّر من العديد من "إرثه"، ولا ننسى أن باوند أعانه على التخلص من البساطة الأدبيّة، وشتاين حولته عن التأثيرات الأدبية التي تلقاها، وفتحت له أبوابا جديدة.
لكن على الرغم من إهمال النقاد نصوصه الشعريّة، استمر همنغواي في نشر القصائد أو عدم نشرها في بعض المراحل محاولا ربط مضامينه الاجتماعيّة التي تصوّر تلك المرحلة، وقد أثارت تلك القصائد جدالا كبيرا لأنها تضمّنت آراءه الأدبيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة، كما في قصيدة بقيت غير منشورة.
على الرغم من إهمال النقاد نصوصه الشعريّة، استمر همنغواي في نشر القصائد
بعدها تراجع همنغواي عن كتابة الشعر بين عامي 1936 و1944، لكنه عاد إليه وكتب نصوصا مختلفة، في سلسلة قصائد بباريس عام 1949 لم تلفت اهتمام النقاد. والقصائد الأخرى التي نظمها بطريقة سريعة والمخطوطات التي كانت ثمرة وحي مفاجئ، قد بقيت. كان يحفظ الأوراق التي استخدمها وهذه القصائد تتغير وتسافر بقدر ما سافر صاحبها.
هذه المتابعة لهمنغواي الشاعر على امتداد سنوات، أكدت أنه، وبالرغم من كل المحاولات التي قام بها لأخذ موقع شِعري، لم تنجح... وإن كل القراءات والمحاولات التي تنكّبها، لتحضير دور شعري له فشلت.
وعندما قرأنا قصائده في الكتاب الذي يضمّها، اقتنعنا بأن موهبته الكبيرة موجودة في رواياته… مثل "الشيخ والبحر"، و"لمن تقرع الأجراس"، و"وداعا أيها السلاح" و"رجال بلا نساء".
لكن هذا لا يشمل كل أعماله. فقد شعرنا بشفافية في بعض قصائد الحب، أو ضربات مكثفة في النصوص القصيرة، وكذلك أحسسنا بتماسك داخلي في بعض نصوصه الطويلة.
لذلك نظنّ أن بقاءه على هامش الشعر في زمنه يعود إلى الاتجاهات والمذاهب الشعريّة في أوروبا والولايات المتحدة التيتفجرت، كالسورياليّة وقبلها الدادائيّة، ثمَّ الرمزيّة (مالارميه وبول فاليري)، وطغت على كل الأساليب الأخرى. لم يحاول أن يخوض لعبة اللغة، وتطويرها، أو التأثر بها، وإنْ كان هناك "تغريب" في بعض قصائده. بقيت كتاباته محصورة بالسرد، سواء كان نقديّا اجتماعيّا، أو سخرية فجّة، أو مباشرة، أو "سبابا" أو هجاء، بقيت خطابا نثريّا لا يوحي بصُور أو حتى ببلاغة معهودة أو بخيال أو حتى بتحريك مشاعر في النفس، كأنه كتبها بالمصادفة، ونشرها غالبا في مجلات صغيرة.