تراث فيرمير... إغراء مستمر لصانعي الأفلام

وثائقي يتناول أضخم المعارض الاستعادية للوحاته

REUTERS
REUTERS
لوحة فيرمير "العشيقة والخادمة" في معرض يجمع 28 عملاً للرسام الهولندي يوهانس فيرمير في أمستردام، هولندا، 6 فبراير 2023.

تراث فيرمير... إغراء مستمر لصانعي الأفلام

تدفق السياح في مثل هذا الوقت من العام الماضي إلى هولندا، ليس لرؤية حدائق التوليب فقط، وإنما لمشاهدة 28 لوحة من أصل 37 لوحة معروفة لمعلم العصر الذهبي الهولندي يوهانس فيرمير، في متحف رايكس بأمستردام، واستمر العرض من فبراير/ شباط إلى يونيو/ حزيران.

وإذا أخذنا بكلام أحد نقاد صحيفة "غارديان"، فقد كان "واحدا من أكثر المعارض إثارة على الإطلاق"، ووصفت صحيفة "نيويورك تايمز" العرض بأنه "مُعدّ على نحو فائق، وبإيقاع متقن، صاف وغير ملوث مثل الضوء المتدفق عبر نوافذ مدينة دلفت الهولندية تلك". ولاحظ كلا المنشورين أن تنظيما بهذا الحجم لن يحدث مرة أخرى أبدا.

على الرغم من أن 650 ألف شخص زاروا هذا العرض الفني الضخم، إلا أن هذا التقدير يغفل عن كثير ممن يتذكرون أول بيت لهم وقد زينوا المطبخ فيه بملصق لوحة "فتاة الحليب" The Milkmaid ويتمنون لو كان في إمكانهم الذهاب. لكن لحسن الحظ، أبقت المخرجة الوثائقية الهولندية سوزان رايس كاميراتها قيد التشغيل خلال الفترة الطويلة التي سبقت المعرض وأثارت الدهشة لطولها، عندما كان القيمون على المعرض خلالها يجهدون لإقناع المتاحف الأخرى وأحد جامعي الأعمال الفنية الأميركيين لكي يوافقوا على عرض مقتنياتهم الثمينة من لوحات فيرمر في المعرض. وقد انتهى بها الأمر إلى إنتاج فيلم جذاب ومؤثر في بعض الأحيان، أعطته اسم "قريبا من فيرمير" Close to Vermeer وأصبح متاحا للمشاهدة عبر معظم منصات البث الرئيسة.

يستند فيلم "قريبا من فيرمير" إلى ذلك، كي يعطي كل بند في كتيب المعرض حقه من الضوء

لطالما كان العدد المحدود من أعمال معلمي القرن السابع عشر الكبار أمرا جذابا، ويستند فيلم "قريبا من فيرمير" إلى ذلك كي يعطي كل بند في كتيب المعرض حقه من الضوء. وكان غريغور ويبر، مدير "متحف رايكس" هو العقل المدبر والمشارك في تنظيم المعرض، الذي لا ينفك يتفقد القائمة التي أعدها، مثل الممثل جورج كلوني في "أوشنز إليفين". ويبر رجل دمث يدفعه شغفه بالرسام الغامض إلى تخطي جميع العقبات البيروقراطية. إن مجرد وصف لتأثير فن فيرمير يمكن أن يجعله يبكي، مما يثبت أنه الرجل المناسب لهذه المهمة. ومما جعل هذا المشروع أكثر إثارة للمشاعر، هو أنه ينوي أن يكون هذا العمل الأخير له قبل تقاعده.

يقدم هذا الفيلم الوثائقي بسرعة الرسام والباحث يوهانس فيرمير، كي يشرح لمن لم يطلعوا على تاريخ الفن أهمية هذه اللوحات وتميزها. نلتقي أيضا بآبي فانديفير المفعمة بالحيوية، وهي متخرجة جامعة برينستون، نشأت في كندا وتعيش في لاهاي، وهي في الأساس المشرفة على لوحة "الفتاة ذات قرط اللؤلؤ" Girl With a Pearl Earring، ويبدو أن ارتباطا روحانيا تقريبا يربطها بهذه اللوحة التي تعد واحدة من أشهر اللوحات في الفن الغربي.

ومن بين المشاركين أيضا، توماس كابلان، الملياردير المقيم في نيويورك الذي يمتلك واحدة من أكبر مجموعات الفن الهولندي. عين الناظر، كما هو الحال مع الجمال، هي من تحدد هل سيظهر كابلان فاعل خير أم أنه متبجح قليلا معه ألعاب شديدة اللمعان.

REUTERS
لوحة فيرمير "The Milkmaid" في معرض يضم 28 عملاً للرسام الهولندي يوهانس فيرمير في متحف ريجكس في أمستردام بهولندا في 6 فبراير 2023.

تُحرك رايس، مخرجة الفيلم، يدها قليلا كي تركز الكاميرا على وجوه الحاضرين وقد أصابهم الذهول من الطريقة الفظة إلى حد ما التي يتعامل بها كابلان مع لوحة "الشابة الجالسة إلى الأرغن" Young Woman Seated at a Virginal, وهي واحدة من لوحتين فقط من أعمال فيرمير، ملكيتهما خاصة.

كالعادة، لا بدّ للفيلم الجيد من بطل شرير، ولكن كابلان أكثر حماقة بعض الشيء من أن يناسب هذا الدور. الأفضل منه هو ممثل متحف "أنطون أولريش هيرزوغ" الشديد التجهم، في بلدة براونشفايغ الألمانية غير المزدحمة، والذي يرفض مجرد التفكير في إعارة لوحة "الفتاة مع كأس النبيذ" The Girl With the Wine Glassولو لصالح هذا العرض الذي يحدث مرة واحدة في العمر. ومع أن مئات الآلاف من الأشخاص كانوا سيتمكنون من رؤيتها في أمستردام، إلا أن سبب رفضه أن الطلاب المحليين بحاجة لرؤيتها في امتحاناتهم، وستثير مخالفة هذا الروتين حالة من الاضطراب.

كما من المؤسف أن "متحف متروبوليتان للفنون" في مدينة نيويورك رفض إعارة لوحتين من أعمال فيرمير الخمسة، لأن في ذلك انتهاكا لشرط عدم الإعارة المنصوص عليه في الوصية. أما اللوحة الثالثة في متروبوليتان، "شابة تحمل إبريق ماء"، فهي أكثر هشاشة من أن تنقل، كما هو الحال مع الأعمال التي أقيمت في فيينا وبريطانيا. أما لوحة "الفلكي" الموجودة عادة في متحف اللوفر في باريس، فهي معارة لأبوظبي ولا يمكن نقلها.

وفيما جلب متحف "متروبوليتان" العار للأميركيين بسبب عدم رغبة القيمين عليه في المشاركة الإيجابية في المعرض، فقد حرصت "مجموعة فريك" في نيويورك على المشاركة بالأعمال الثلاثة التي لديها، كذلك شارك المعرض الوطني في واشنطن بمجموعاته الأربع. لكن، وهنا تصبح الأمور أشد غرابة فعلا، إذ ربما لا يملك المتحف الوطني سوى ثلاثة أعمال لفيرمير.

فقبل بضعة أشهر فقط من العرض، أعلن المعرض الوطني بعد دراسة متأنية، أن لوحة "الفتاة ذات المزمار" إحدى أكثر لوحاته قيمة، كانت لوحة زائفة في الحقيقة. على الرغم من أن أهل واشنطن يقدمون حجة قوية، إلا أن ويبر وفريقه في "متحف رايكس" يرفضون استنتاجهم، ويقولون إنها رغم الشكوك لوحة أصلية. يؤدي هذا إلى اجتماع طارئ مغلق لمقيمي الأعمال الفنية وإلى توتر أكبر بكثير مما يتوقعه المرء في فيلم وثائقي لطيف عن معرض يقيمه متحف.

بعد مشاهدة فيلم "قريبا من فيرمير"، يدرك المرء عظمة هذا الفنان ومدى تأثير أعماله في حياة الكثير من الناس. فيرمير، الذي لا تتوفر أي معلومات عن سيرته الذاتية تقريبا، ولا سجل عمن تتلمذ على أيديهم من المعلمين الآخرين، ومن لم يصب أي شهرة في حياته واضطرت أرملته إلى بيع لوحاته كي تشتري الخبز. هذا السر الذي يلف حياة فيرمير أثبت أنه مصدر غني لصناع السينما في السنوات الأخيرة.

المثال الأكثر شهرة على ذلك، هو الفيلم البريطاني لعام 2003 "الفتاة ذات أقراط اللؤلؤ"، وهو تحفة فنية رائعة شبه مسرحية، تظهر المراحل التي يتبعها فيرمير في إنشاء أعماله الأشهر. يؤدي كولين فيرث دور العبقري الكئيب بشعره الطويل وعبوسه الأبدي، وهو يلتقط الضوء في عليّة منزله بينما يتجنب زوجته المزعجة وحماته. تؤدي سكارليت يوهانسن دور الخادمة الجديدة ذات العينين الواسعتين وتدعى غريت، والتي تصبح ملهمة فيرمير - وفي وسعكم أن تتخيلوا، كيف يتبادلان نظرات الشوق المؤلمة بينهما (يبرز أيضا دور كيليان ميرفي الذي حاز الأوسكار في الآونة الأخيرة، بوصفه أجمل جزار شاب في سوق مدينة دلفت).

يستند الفيلم إلى إحدى الروايات الأكثر مبيعا، والمبنية على التخمين البحت، وأبعد من أن تكون عملا فنيا مميزا، مع أن فيها الكثير من التفاصيل التي تثير الإعجاب عن تلك الفترة. ومن المؤكد أن الفيلم مضاء ومؤطر على نحو جيد، كما ينبغي أن يكون عليه حال أي فيلم جيد عن فيرمير. وتعاقب فيرث ويوهانسن على طحن اللازورد للحصول على الصبغة الزرقاء المثالية ليس عذرا خفيا لإظهار التوتر الجنسي، لكنه يشهد أيضا على الساعات الطويلة التي كان يقضيها فنانو ذلك العصر لرسم لوحاتهم على القماش.

وهذا يقودنا إلى سؤال مهم: كيف حقق فيرمير روائعه بالضبط؟ على غرار الألغاز المحيطة بشخصيات مثل شكسبير وموزارت، هناك العديد من النظريات. مع ذلك، في حالة فيرمير، لا يدور الجدال حول من قام بإنشاء الأعمال، بل حول ما إذا كان في الأساس فنانا موهوبا بالفطرة أم مخترعا بارعا استفاد من التقنيات الناشئة. حتى وجهات النظر القريبة من فيرمير التي راجت بعد وفاته، بما فيها فيلم "قريبا من فيرمير"، تعترف بوجود أدلة تشير إلى أن الرسام الهولندي ربما استخدم اختراعا حديثا نسبيا في ذلك الوقت، وهو الكاميرا.

كان أدولف هتلر من هواة الفن، وهو موضوع استكشفه الفيلم الشهير، "القطار"

يتم تقديم الدعم للفكرة الأخيرة، وما قد يعتبره البعض دليلا، في الفيلم الوثائقي غير التقليدي المبهج لعام 2013 "فيرمير برؤية تيم"  Tim's Vermeer. صنع هذا الفيلم الثنائي الكوميدي الساحر بن وتيللر، ومعهما فارلي زيغلر، وهو يروي رحلة تيم جينيسون، وهو مخترع وخبير كومبيوتر، وهو على وجه الخصوص ليس فنانا محترفا، ولكنه يغدو مفتونا بشدة بالكشف عن التقنيات التي يستخدمها فيرمير وتكرارها.

لن يتسنى لنا مطلقا التأكد مما إذا كانت نظرية جينيسون صحيحة، ولكن يبدو أن العديد من الخبراء، بما في ذلك الرسام البريطاني ديفيد هوكني، قد اقتنعوا بها في نهاية الأمر. والأهم من ذلك، أن فيلم Tim's Vermeer يعترف بأن صحة نظريته لا تنفي وجود براعة فنية كبيرة في كيفية تصميم فيرمير للوحاته، والإبداع في ابتكار هذه الطريقة، والمثابرة اللازمة للتغلب على المهمة.

Rijksmuseum, Amsterdam
من معرض فيرمير في متحف ريجكس، أمستردام، 2023.

وإذا لم يرو هذا وذاك كل ظمأك لفيرمير، فهناك دراما أنتجت في 2019 بعنوان "فيرمير الأخير" The Last Vermeer، التي يلعب فيها غاي بيرس دور هان فان ميغيرين، وهو مزور فني هولندي خدع النازيين لشراء أعمال فيرمير زائفة.

من المعروف على نطاق واسع أن أدولف هتلر كان من هواة الفن، وهو موضوع استكشفه الفيلم الشهير، "القطار"، بطولة بيرت لانكستر. وفي مرحلة ما، امتلك هتلر لوحة "فن الرسم" The Art of Paintingليوهانس فيرمير، وهي تحفة فنية معروضة حاليا في "متحف كونسثيستوريستشس" في فيينا بطريقة تثير الجدال.

يقدم فيلم "فيرمير الأخير"، بالإضافة إلى كونه قصة مسلية، صورة مثيرة للاهتمام لرجل تم الترحيب به بعد الحرب كبطل مقاومة، ولكن قد يكون في الحقيقة مجرد محتال عادي. بالطبع، الفيلم الذي يود عشاق الفن مشاهدته أكثر من أي شيء هو ذلك الذي تجد فيه الشرطة أخيرا لوحة "الحفل الموسيقي" The Concert، واحدة من 13 عملا فنيا سُرقت من متحف إيزابيلا ستيوارت غاردنر في بوسطن في عام 1990، بينها لوحات لرامبرانت وإدغار ديغا وإدوار مانيه.

font change

مقالات ذات صلة