الأدب تشفيا من الذات واعترافا بمكنوناتها

رغبة في تعرية النفس وتنقيتها من الشوائب

Nesma Moharam
Nesma Moharam

الأدب تشفيا من الذات واعترافا بمكنوناتها

نجد أحيانا في الأدب نوعا من التشفي، هو التشفي من الذات. فكثيرا ما يستمتع الأديب بالتشفي من نفسه. وذلك عندما يقدم على عرض تجاربه الشخصية بأقصى ما يمكنه من الصدق والشفافية. بل ينزع إلى إدانة نفسه، من خلال التركيز على نقائص أو مساوئ أو نقاط ضعف في تكوينه.

من المرجح أن مصدر متعته في ذلك هو رغبته في التطهر. فكأن الأديب يتخلص في أدبه مما يعبر عنه أو يبوح به. وكأني هنا قد أشرت - دون قصد- إلى النظرية القديمة في التطهير أو التطهر لأرسطو، الذي ربما كان أول من تحدث عن أبعاد نفسية في الأدب، وعن آثاره النفسية لدى متلقيه.

التشفي من الذات، في الأدب، ينطوي إذن على موقف نبيل. والنبل في هذا الموقف لا يقتصر على التجرد والصدق والنزاهة، وإنما يتعدى هذا كله إلى الرغبة في تعرية النفس، أو بالأحرى تنقيتها من شوائبها. ولنا على ذلك

أمثلة كثيرة في الأعمال الأدبية، قديمها وحديثها، وخصوصا في الرواية والشعر.

روسو ودوستويوفسكي

من المعروف أن الرواية هي النوع الأدبي الذي يجد فيه الكاتب مجالا واسعا لتقديم صور من تجاربه الشخصية، على نحو مباشر أحيانا، وعلى نحو غير مباشر أحيانا أخرى. في الحالة الأولى تكون الرواية سيرة ذاتية، وفي الحالة الثانية تكون الرواية خلقا لعالم من الأحداث والشخصيات، يمتزج فيها الواقع بالمتخيل، ويبث الكاتب في شخصياته عناصر من تجاربه الخاصة في الحياة.

كشف دوستويوفسكي في بعض أعماله عن جموح كبير في تجاربه المختلفة، جموح أدى به إلى الانجراف وراء نزواته التي أفقدته التوازن

شاع فن السيرة الذاتية في الآداب الأجنبية منذ زمن ليس بالقصير. وكثرت المؤلفات التي ينحو أصحابها منحى المراجعة وإدانة الذات، وصولا إلى التشفي منها. أول ما يرد إلى ذهني في هذا المجال "اعترافات" جان جاك روسو، التي يفصح فيها عن أمور يفضل المرء عادة الاحتفاظ بها كأسرار، أمور تتعلق بالطفولة والنشأة والجنس وما يرافق ذلك من انحرافات أخلاقية أو شطط في الأفكار والتصورات. كأن روسو رغب في الكشف عن نفسه، في تعريتها أو حتى في فضحها. أكان يجد في ذلك مخرجا من ضغوط معينة ومشاعر بالذنب، أم هروبا من أزمات نفسية؟

 من ذلك أيضا، نورد بعض المؤلفات التي وضعها دوستويوفسكي، ليكشف فيها عن جموح كبير في تجاربه المختلفة، جموح أدى به إلى الانجراف وراء نزواته التي أفقدته التوازن في كثير من الأحيان. يمكن للقارئ أن يستشف الكثير من ذلك في روايتيه الشهيرتين "المقامر" و"الأبله"، وقبلهما في كتاب عنوانه "رسائل من تحت الأرض"، هو أقرب ما يكون إلى سيرة ذاتية. ومثل ذلك نجده لدى بعض الكتاب الوجوديين مثل كامو وسارتر وسيمون دو بوفوار، وبعدهم لدى الكثيرين من كتاب الأدب "الاعترافي" في الغرب.

لا أرمي هنا إلى إجراء مسح شامل، أو إيراد الكثير من الأمثلة، وإنما أكتفي بالقليل منها، على سبيل الاستئناس بها فقط.

 wikipedia
دوستويوفسكي

 في الرواية العربية التي لا يخفى تأثرها بالرواية الغربية، نجد الكثير أيضا من النماذج التي تنطوي على الرغبة في البوح أو الكشف، توخيا لنوع من الفضائحية التي تحدث الصدمة لدى القارئ. هل نذكر على سبيل المثل لا الحصر رواية "الخبز الحافي" للكاتب المغربي محمد شكري، والجزء الأول من سيرة سهيل إدريس؟ وهو الجزء الوحيد من سيرته، فبعد صدوره صرف الكاتب النظر عن المتابعة.

هنا، يحسن بنا التوقف عند حدث كبير كان له الأثر البعيد في الأدب العربي وفي تطور موضوعاته، وذهب بالكتاب العرب إلى مزيد من التشفي من الذات، فردية أكانت أم جماعية، حتى أن الأمر تجاوز التشفي أحيانا إلى جلد الذات. هذا الحدث هو الهزيمة التي تلقاها العرب في يونيو/ حزيران من العام 1967. هذه الهزيمة ألقت بظلالها الثقيلة على كل ما صدر بعدها من أدب وفكر وأبحاث.

لقد انشغل الكتاب العرب بالكلام على أسباب الهزيمة ونتائجها، وكذلك على كيفيات التعامل مع آثارها، فنحا الكثيرون منهم نحو المراجعة أو النقد الذاتي أو الاعتراف بالضعف أو التقصير أو انعدام الرؤى.

ولكن، بعد هذا الحدث، وعلى مدى خمسة عقود أو ستة، وقعت حروب وأحداث أخرى كبيرة، أدت إلى المزيد من التخبط والتشرذم والضياع في الواقع العربي. وهذا كله جعل الأدب يتجه أكثر فأكثر نحو إدانة الذات والاعتراف بالأخطاء. وطالما نحن الآن في صدد الكلام على الرواية العربية، يمكننا القول إنها راحت تتسع لتقصي العوامل المؤثرة في ما وصلنا إليه، فظهرت على سبيل المثل "روايات الحرب" التي راحت تتناول تجارب المحاربين ومظاهر العنف، خصوصا في الحروب الأهلية التي حصلت في العديد من البلدان العربية. إلى ذلك، راح كتاب الرواية يعالجون مواضيع حساسة كالجنس والسياسة والدين، بما يتخللها من جموح أو انحراف. وقد وجد الكثيرون في ذلك مجالا للتشفي من الذات، وأقبلوا عليه بجرأة غير مسبوقة، لأنهم لمسوا بسببه إقبالا من القراء، فوجدوا فيه عاملا من عوامل الرواج.

هجاء النفس

يحتوي الشعر العربي، قديمه وحديثه، على نماذج عدة للتشفي من الذات.

لم يكن التشفي من الذات غرضا من الأغراض الشائعة في الشعر العربي القديم. بل كان نقيضه، أي الفخر، هو الشائع كثيرا في هذا الشعر. إلا أن المتقصي يمكنه العثور على أمثلة ليست بالقليلة. منها ما قاله الحطيئة في هجاء نفسه.

 انشغل الكتاب العرب بالكلام على أسباب هزيمة 1967 ونتائجها، وكذلك على كيفيات التعامل مع آثارها

الحطيئة هو شاعر مخضرم (من الجاهلية إلى الإسلام)، وقد عرف بلسانه المقذع. كان يهجو بلا حساب. هجا الكثير من الناس. وبلغ به الأمر أن هجا أمه، كما هجا أباه وزوجته. ولما لم يبق له أحد كي يهجوه هجا نفسه:

أبت شفتاي اليوم إلا تكلما     

بسوء فما أدري لمن أنا قائله

       أرى لي وجها قبح الله خلقه      فقبح من وجه وقبح حامله

أما أبو الشمقمق، وهو شاعر عباسي، فقد كان فقيرا معدما. وشعوره بالذنب، لعجزه عن إعالة أولاده، قاده إلى القول:

أنا في حال  تعالى  الله  ربي  أي  حال

ولقد أهزلت حتى      محت الشمس خيالي

من رأى شيئا محالا     فأنا  عين المحال

ليس لي شيء إذا  قيل  لمن ذا قلت ذا لي

ولقد أفلست حتى    حل   أكلي لعيالي

وفي سياق مختلف نوعا ما، يشكو أحد الشعراء الصعاليك في العصر المملوكي، وهو أبو الحسين الجزار، من كساد مهنة الأدب، مما دفعه إلى هجرها وامتهان الجزارة. يقول في ذلك:

كيف لا أشكر الجزارة ما  عشت حفاظا  وأهجر الآدابا

وبها صارت الكلاب ترجيني وبالشعر كنت أرجو الكلابا

AFP
نزار قباني

في الشعر العربي المعاصر، وخصوصا بعد هزيمة العام 1967، ذهب الشعراء بعيدا في توبيخ الذات، والتشفي منها. وهنا تحضر الذات الجماعية (العربية) أكثر من الذات الفردية. فمظفر النواب اشتهر بقصائده التي هاجمت الحكام العرب هجوما عنيفا، ولاقت بسبب ذلك إقبالا جماهيريا. من ذلك قصيدته التي تشكك في عروبة هؤلاء الحكام لأنهم خذلوا القدس والقضية الفلسطينية.

وقد بلغ الأمر بنزار قباني أن يئس من العرب عموما، بسبب تقاعسهم عن نصرة فلسطين، فكتب قصيدة عنوانها "متى يعلنون وفاة العرب؟". والأمثلة المشابهة كثيرة.

غزة وما بعدها

 ماذا قال الأدباء العرب، وماذا سيقولون، إزاء حرب الإبادة التي تجري اليوم في غزة؟ وما يجري اليوم فيها هو الأكثر خطورة منذ النكبة. وينبغي للعرب أن يروا في ما يجري قضيتهم جميعا. فالأمر ليس مقتصرا على الفلسطينيين، لا حاضرا ولا مستقبلا. بل يصح القول إن هذه الحرب تجاوزت بمعانيها وأبعادها منطقة العرب إلى العالم كله. لقد باتت المسألة مسألة وجود، وتأملا في معنى الوجود نفسه. كيف يبلغ التوحش الذي يتعرض له الفلسطينيون في غزة هذه الدرجة من الفظاعة؟ وهل لهذا التوحش خلفية دينية؟ وما دور الخرافة في هذا كله؟ كذلك ما دور الأفكار والتقنيات والمصالح؟ وهل هنالك ضمير عالمي ينظر إلى الحق الفلسطيني ويدعو إلى إحقاقه؟

 الكتاب العرب باتوا في مواجهة مباشرة مع الأسئلة المنبثقة من غزة، فكيف سينظرون إلى ذواتهم في خلال هذه المواجهة؟

  هذه أسئلة تجر أسئلة كثيرة غيرها. وقد يكون من السابق لأوانه أن نلاحق أصداء لها في الأدب. فالحدث لا يزال جاريا، وقد يتسع ويتفاقم. إلا أن التعبير الأدبي إزاءه قد يحتاج إلى مسافة زمنية تتيح المزيد من التأمل فيه وفي آثاره.

لم أطلع إلا على القليل من شعر كتب إزاء الحدث المصيري في غزة، وربما كان هناك الكثير من الكتابات. وقد صادفت ما هو جيد في ما اطلعت عليه. ذلك أن هذا الجيد ينم عن اندماج بالحدث وانخراط في أعماقه المأسوية.

wikipedia
وحدة مدرعة إسرائيلية تدخل غزة خلال حرب الأيام الستة، 6 يونيو، 1967

في الختام، ما أرمي إليه هو القول إن غزة ستشكل منعطفا في الأدب والفكر العربيين. والكتاب العرب باتوا في مواجهة مباشرة مع الأسئلة المنبثقة من غزة. فكيف سينظرون إلى ذواتهم في خلال هذه المواجهة؟

font change

مقالات ذات صلة