عن الذكاء الاصطناعي والتحيز اللا إنساني

من الذي يحدد معرفة الآخر؟

Sara Gironi Carnevale
Sara Gironi Carnevale

عن الذكاء الاصطناعي والتحيز اللا إنساني

لا يزال المجال الإبداعي ينظر إلى فورة الذكاء الاصطناعي وما ينتجه بحذر شديد، نتيجة لما يشاع حاليا حول قدرة الذكاء الاصطناعي على تطوير مركز إبداعي خاص به، يكاد يتوازى مع القدرة البشرية للإبداع، وهو ما نشاهده هنا وهناك حول العالم من نصوص نثرية أو شعرية يتم الزعم بأنها إنتاج خالصٌ لوعي الذكاء الاصطناعي، مع التركيز على الفكرة المصطنعة للوعي هنا.

لكن الأمر يكاد يفوق ذلك اليوم، ليفرز مكامن حذر جديدة، لعل نقاشها والتنبه لها اليوم قد يكون أكبر وأهم، وهو ذلك الجانب الذي سُلط الضوء عليه أخيرا في ظل الأزمات السياسية والإنسانية التي يضج بها العالم، وهو الأمر المرتبط بالتحيزات التي يكوّنها هذا الذكاء، ووعيه المصطنع المشار إليه سابقا، ودوره في رصد المعلومات والأفكار وتقديمها الى الباحثين عنها، مصطفا مع جانب دون الآخر وفق أولويات، قد تعود في جذرها الى العنصر البشري الملقن نسبيا لهذا الذكاء عند بداية تصنيعه على الأقل، والأمر الذي قد يتشابك مع السؤال الإبداعي هنا، فأي إبداع قد يقدمه هذا الذكاء صاحب الوعي المتطور الذي بني في جذره على التحيز البشري؟ وهل يعيد البشر أخطاءهم الأولى ذاتها لتنتقل صراعاتهم من وعيهم الحي إلى وعي بديل يخوضها عوضا عنهم؟ ثم إذا ما عدنا الى جذر الحالة الإبداعية أيضا باعتبارها شكلا من أشكال المعرفة الإنسانية المبنية على التجربة، فمن هو هنا الذي يلقن الآخر المعرفة، وكيف سيكون هو شكل الجيل الجديد وما ينتجه من إبداع إن هو لم ينتبه أن تجاربه الافتراضية التي تشغل جزءا كبيرا من حياته اليومية في ما بعد الألفية، هي معرفة مبنية على تحيزات موجهة، تحد من قدرته على الوصول الى الفكرة الحرة؟

اللغة والعالم الرقمي

في هذا الوقت الرقمي، يكون من الصعوبة بمكان، الحديث عن اللغة باعتبارها جزءا من العملية الشعورية، كون الخوارزميات كثيرا ما تخلط بين المتباينات والمتماثلات الرقمية المجردة، بناء على الحمولة اللغوية المجردة بدورها من تاريخها الثقافي والإنساني، كجزء من مادة تلقينية وتحليلية وليست شعورية، وهو الأمر الذي لخصه ميشال لكروا بشكل جميل في مادته التحليلية، "عبادة المشاعر"، باعتبار الحمولة اللغوية التي يتم التعامل معها اليوم في العالم الرقمي هي عبارة عن حمولة تعتمد على ثقافة المباشرة والصدمة، بعيدا من الوعي التأملي البطيء للتراكم الشعوري كما هو تشكله البدائي لدى الإنسان، الأمر الذي خلق سلالة جديدة من بشر الحداثة يعبدون هذه المشاعر المباشرة والمضللة والمبنية على الخوارزميات التحليلية، وليست تلك المرتبطة بفرادة التجربة الإنسانية والشعورية لكل فرد على حدة، وما تأتي لتفرزه هذه الحمولة الشعورية من عالم لغوي مبني على ما يريده الشخص فعلا ويشعر به، ويراه الأهم من ذلك أن يكون رأيا عنه.

هل يعيد البشر أخطاءهم الأولى ذاتها لتنتقل صراعاتهم من وعيهم الحي إلى وعي بديل يخوضها عوضا عنهم؟

ومن هذا السياق نفسه، فإن من السهل بمكان أن ينتج الذكاء الاصطناعي، المبني على تلك الحمولة اللغوية الرقمية والمعلوماتية المجردة في غالب الأحيان، وإن كانت تتطور باستمرار من ناحية الكم والتحليل لا من ناحية الكيف، عموما، من السهل أن توجه هذه العوالم الذكية رقميا، تحيزات البشر اليوم، وطريقة تكوينهم للآراء بما تجمعه من معلومات كمية، دون التقصي العميق للمجال الشعوري الرصين في تكوين الآراء وتحليلها إلى جانب المنطق. الشعور في العالم الرقمي هو ومضات خاطفة من الانتشاء المتواصل سلبا وإيجابا، تماما كما هي حالة المتعاطي الدائم للمخدرات أيا كان نوعها، وهذا ما يقودنا مجددا إلى صميم حديثنا عن التحيز اللغوي للذكاء الاصطناعي. فالتحيزات هنا في جزء كبير نسبيا منها، هي نتاج تلقين سطحي كمي راكم مع الوقت الكيفية التي يوجه بها الذكاء الرقمي جموع المتلقي والمتفاعلين معه.

AP
القمة العالمية للحكومات، دبي 2024

فالذكاء الاصطناعي اليوم، هو ذلك الوعي المصطنع المتطور كميا والمزروع في كل ما نتعامل معه رقميا بدورنا، من أجهزة الهاتف إلى المواقع الإلكترونية، مرورا بمنصات التواصل الاجتماعي وتحديثاتها المستمرة، تلك المنصات التي تشكل اليوم التعبير الحيوي عن الشارع البشري العالمي وما يعتمل في داخله من صراعات ومتناقضات. نحن نتحدث عن وعي شبحي هنا، موجود وفاعل، وليس كما قد يتصور كثر بأنه مقتصر فقط على تطبيقات توليد الأسئلة والإجابات أو الأخرى المعنية فقط بتولية قطع إبداعية أو أخرى مترجمة.

تغول الذكاء الاصطناعي

في القمة العالمية للحكومات التي أقيمت في دبي، أخيرا، وبحكم الجانب التقني من عملي الهندسي المرتبط بالابتكار وتكنولوجيا المعلومات الجديدة ومنهجتها، حضرت حوارا مطولا مع رئيس علماء الذكاء الاصطناعي في "فيسبوك" يان ليكون، في جلسة حملت سؤالا يطرح بكثرة هذه الأيام وهو "هل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن ينهي العالم؟"، الأمر الذي أجاب عنه يان ليكون في شيء من التفاؤل، مشيرا إلى أنه على الرغم من التقدم الهائل الذي وصلت إليه تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي اليوم، إلا أنها لم تتمكن فعليا من الوصول إلى ما يقارب 5 في المئة من العبقرية البشرية الفريدة من نوعها بحسب وصفه. لذا فالحديث عن إمكان تغول الذكاء الاصطناعي اليوم لا تزال مبكرة جدا، الأمر الذي بقدر تفاؤله الظاهري إلا أنه يشير بشكل واضح إلى أزمة التحيز السطحي الواضحة المعتمدة على التلقين الكمي التي يتناولها الذكاء الاصطناعي اليوم.

في حرب غزة نجد تحيزا واضحا يلغي ويقصي المختلف في الرأي وكلمات وأفكارا تدعم الطرف الأقوى ومناصريه

 ويمكننا من هذا المنطلق أن ننظر إلى تعاطي هذا النوع من الوعي المصطنع مع ما يحدث في فلسطين المحتلة على سبيل المثل خلال حرب غزة التي لا تزال قائمة بأبشع الأشكال حتى يومنا هذا دون أي توازن عادل وحقيقي بين القوى والأطراف، لنجد التحيز الكامل من الوعي المصطنع الكمي اعتمادا على ما غذاه به صانعوه من معلومات وكلمات ولغة الطرف الآخر الأقوى والأكثر تجردا ووحشية في المعادلة، لنجد تحيزا واضحا يلغي ويقصي المختلف في الرأي عما هو موجود كميا من معلومات وكلمات وأفكار تدعم الطرف الأقوى ومناصريه، ومن هنا فإننا لا نستطيع أن نستشف وعيا ذكيا خالصا قائما على تحليل فكرة العنف وواقعها ونبذ الدم والتفتيش في الحقائق التاريخية لا الطارئة المغذاة، بحيث لم تعد هناك منطقة رمادية ممكنة للغة التحليل المطلوبة، بل كان هناك ذلك التمايز اللامنطقي الممنطق للمفارقة خوارزميا بين أبيض له الضوء وأسود معتم عليه قسريا ومدانٌ، فهو منفي.

AFP
أطفال يقفون خلف الأسلاك الشائكة بالقرب من مخيم يأوي النازحين في رفح، جنوب قطاع غزة، 30 أبريل 2024

لذا ختاما قد أعود لأشدد على أن ما يقلقنا اليوم فعلا هو ليس إن كان ذلك الذكاء قادرا على كتابة رواية أو قصيدة، أو إذا ما كان سيزاحم الإنسان في مهنه الفكرية كالترجمة والفلسفة وغيرها، بل عما إذا كان ذلك الذكاء بوعيه الكمي المصطنع وتحيزاته اللغوية السطحية قادرا على توجيه الجموع نحو عالم خال من التباينات الضرورية للتجربة الشعورية واللغوية الفردية، أو ما قد يقودنا من خلاله إلى ما هو أخطر من ذلك، الى عالم يصطف على طرفي نقيض من التحيزات مع أو ضد، على شفير حرب عالمية جديدة، هي حرب الأفكار التي ستطيح من بعدها كل إمكان لاستمرار الحضارة الإنسانية.

font change

مقالات ذات صلة