لا يزال المجال الإبداعي ينظر إلى فورة الذكاء الاصطناعي وما ينتجه بحذر شديد، نتيجة لما يشاع حاليا حول قدرة الذكاء الاصطناعي على تطوير مركز إبداعي خاص به، يكاد يتوازى مع القدرة البشرية للإبداع، وهو ما نشاهده هنا وهناك حول العالم من نصوص نثرية أو شعرية يتم الزعم بأنها إنتاج خالصٌ لوعي الذكاء الاصطناعي، مع التركيز على الفكرة المصطنعة للوعي هنا.
لكن الأمر يكاد يفوق ذلك اليوم، ليفرز مكامن حذر جديدة، لعل نقاشها والتنبه لها اليوم قد يكون أكبر وأهم، وهو ذلك الجانب الذي سُلط الضوء عليه أخيرا في ظل الأزمات السياسية والإنسانية التي يضج بها العالم، وهو الأمر المرتبط بالتحيزات التي يكوّنها هذا الذكاء، ووعيه المصطنع المشار إليه سابقا، ودوره في رصد المعلومات والأفكار وتقديمها الى الباحثين عنها، مصطفا مع جانب دون الآخر وفق أولويات، قد تعود في جذرها الى العنصر البشري الملقن نسبيا لهذا الذكاء عند بداية تصنيعه على الأقل، والأمر الذي قد يتشابك مع السؤال الإبداعي هنا، فأي إبداع قد يقدمه هذا الذكاء صاحب الوعي المتطور الذي بني في جذره على التحيز البشري؟ وهل يعيد البشر أخطاءهم الأولى ذاتها لتنتقل صراعاتهم من وعيهم الحي إلى وعي بديل يخوضها عوضا عنهم؟ ثم إذا ما عدنا الى جذر الحالة الإبداعية أيضا باعتبارها شكلا من أشكال المعرفة الإنسانية المبنية على التجربة، فمن هو هنا الذي يلقن الآخر المعرفة، وكيف سيكون هو شكل الجيل الجديد وما ينتجه من إبداع إن هو لم ينتبه أن تجاربه الافتراضية التي تشغل جزءا كبيرا من حياته اليومية في ما بعد الألفية، هي معرفة مبنية على تحيزات موجهة، تحد من قدرته على الوصول الى الفكرة الحرة؟
اللغة والعالم الرقمي
في هذا الوقت الرقمي، يكون من الصعوبة بمكان، الحديث عن اللغة باعتبارها جزءا من العملية الشعورية، كون الخوارزميات كثيرا ما تخلط بين المتباينات والمتماثلات الرقمية المجردة، بناء على الحمولة اللغوية المجردة بدورها من تاريخها الثقافي والإنساني، كجزء من مادة تلقينية وتحليلية وليست شعورية، وهو الأمر الذي لخصه ميشال لكروا بشكل جميل في مادته التحليلية، "عبادة المشاعر"، باعتبار الحمولة اللغوية التي يتم التعامل معها اليوم في العالم الرقمي هي عبارة عن حمولة تعتمد على ثقافة المباشرة والصدمة، بعيدا من الوعي التأملي البطيء للتراكم الشعوري كما هو تشكله البدائي لدى الإنسان، الأمر الذي خلق سلالة جديدة من بشر الحداثة يعبدون هذه المشاعر المباشرة والمضللة والمبنية على الخوارزميات التحليلية، وليست تلك المرتبطة بفرادة التجربة الإنسانية والشعورية لكل فرد على حدة، وما تأتي لتفرزه هذه الحمولة الشعورية من عالم لغوي مبني على ما يريده الشخص فعلا ويشعر به، ويراه الأهم من ذلك أن يكون رأيا عنه.