أن يكون شخوص الكتاب من الفنانين بالضرورة، فهذا يعني أن الكتاب يجاور منجزاتهم الإبداعية، يجترح كوة للدخول إلى عوالهم، كأنما يعرض مفاتيح لولوج حدائقهم السرية أو مطابخهم المجهولة. كذلك، يضيء بصورة من الصور، حيواتهم الغريبة ويقف عند لحظات مارقة من لغزية سيرهم المحتدمة.
عبر الحلم، يحتفي تابوكي بهذه الزمرة اللعينة من الكتاب الذين رسخوا في ذاكرته، وبينهم تتقاطع علامات للريبة والجنون والعبقرية والهذيان والعزلة والمجون والغرابة والغموض، هم على التوالي: مهندس متاهة كريت الشهير ديدالوس، صاحب التحولات الشاعر بوبيليوس أوفيد نازو، صاحب الحمار الذهبي لوكيوس أبوليوس، الشاعر تشكو أنجلوليري، صاحب الوصية الكبرى الشاعر فرنسوا فيون، صاحب "كركانتوا" الكاتب والراهب فرنسوا رابليه، صاحب لوحة "القديس متّى" الرسام ميكال أنجلو مريزي، صاحب لوحة "النزوات" الرسام فرانشيسكو غويا إلثينتس، صاحب ديوان "قوافي البحار القديم" الشاعر صموئيل كوليردج، الشاعر جياكومو ليوباردي، صاحب "دمية خشبية" الكاتب والمسرحي كارلو كولودي، صاحب "جزيرة الكنز" الكاتب والرحالة روبرت لويس ستيفنسن، صاحب "فصل في الجحيم" الشاعر أرثر رامبو، صاحب "بستان الكرز" القاص والمسرحي أنطون تشيخوف، الموسيقي كلود دوبوسي، الرسام هنري دو تولوز، الشاعر فرناندو بيسوا، صاحب "غيمة في بنطلون" الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي، صاحب "عرس الدم" الشاعر فيدريكو غارثيا لوركا، ومؤسس " علم النفس " سيغموند فرويد.
غرائبية
ولأنها أحلام، من المتوقع أن تكون ذات نزوع غرائبي، عجائبي، سوريالي، ولاعقلاني، تجافي المنطق، وتنأى عن المألوف والعادي والواقعي. غير أن لا معقوليتها ولا منطقيتها، لا يعني أنها تبتعد كليا عن حقائق وحوادث وعلامات دامغة لحيوات الشخوص وأعمالهم. بل مؤسسة على وقائع ووجوه وشخوص وإبداعات من تجارب هؤلاء، كأن يحلم ديدالوس بنفسه داخل متاهة قصر (وهنا المفارقة اللاذعة صانع متاهة كريت يقع ضحية لأروقة قصر مضللة ومتاهية) ويتوه في أروقته المتكرّرة إلى أن يلتقي ثورا (يحيل على ثور المينيتور في أسطورة متاهة كريت)، فيصنع له أجنحة من ريش وشمع (في الأسطورة صنع الأجنحة لابنه إيكاروس)، حتى يحقق له حلم الطيران إلى القمر. وفي منام آخر يرى أوفيد نفسه وقد تحول إلى فراشة (هنا يحيل الأمر على تحولات كتابه الموسوم بالاسم نفسه) ويحلّق إلى القيصر ناظما قصيدة مديح، علّه يصفح عنه بعد غضب من القيصر أفضى إلى نفيه بعيدا (هذا جانب حقيقي من سيرة أوفيد). وفي منام آخر ينقذ لوكيوس أبوليوس جحشا من مشهد ماجن مع ساحرة، وبعدها يخلصه من المسخ الذي طاله منها (إحالة إلى جحش كتابه الجحش أو الحمار الذهبي)... إلخ.
على هذا النحو، تتقاسم النصوص تجاربها الحلمية، باشتباكها المقصود مع وجوه إشارية من حيوات وإبداعات الشخوص الفنية المنتخبة دون أن تحافظ على ما هي عليه في نسختها الأصل، بل تعتمدها كإيماءات، وتبتكر لها مصائر مغايرة تماما، نقيضة أحيانا، ومنزاحة بشكل جذري أحيانا أخرى، مع نضوحها بمفارقات صارخة.
تشترك هذه النصوص في اعتماد مقدمة متشابهة ومتكررة بشكل أمين، قبل أن تختلف وتتباين وتفترق في متون حكاياتها، ثم تعود لتشترك في نهايات بعينها، والمقصود هنا فعل الاستيقاظ من الحلم في مختتم النص، فيما نهايات أخرى تمارس اختلافها باعتماد تذييلات غير متطابقة، ومخارج متنوعة ومتعددة.
فالنصوص التي تطابقت نهاياتها وتقاسمت فعل استيقاظ الشخصية الحالمة من معترك منامها، مما يعزز انفصالا بين سيرورة الحلم وسيرورة النص، هي أحلام كل من تشكو أنيو ليري، فرنسوا رابليه، غويا، كولريدج، ماياكوفسكي، لوركا، وفرويد.
والنصوص التي مهرت مختتم سرودها بنهايات مفتوحة، دون أن يستفيق الشخص الحالم من منامه ليتضح أن الأمر يتعلق بحلم لا غير، ولا تنفصل سيرورة النص عن سيرورة الحلم، بل يندمغان ويشكلان وحدة متكاملة، إذ لا نعرف أين ينتهي الحلم و أين ينتهي النص؟ هي نصوص وأحلام كل من: ديدالوس، أوفيد، فرنسوا فيون، كارلو كولودي، ستفنسن، رامبو، تشيخوف، كلود دوبوسي.