أحلام أنطونيو تابوكي

wikimedia
wikimedia
الكاتب الإيطالي أنطونيو تابوكي.

أحلام أنطونيو تابوكي

يتسلل الكاتب الإيطالي أنطونيو تابوكي إلى أحلام الآخرين، عبر تخيّل مفترض لرؤى تحققت في منامات شعراء وكتاب ورسامين، انتخبهم بدقة وعناية في كتابه "أحلام أحلام: محكيات ملحمية متخيلة"، الذي كان قد ترجمه إلى العربية رشيد وحتى.

يهجس تابوكي في مدخل الكتاب، بالرغبة المحتدمة التي طالما انتابته في التعرف إلى أحلام الآخرين، أحلام المبدعين الذين لم يتركوا أثرا لها في يوميات أو اعترافات أو كراسات، وما من سبيل لتلقّف أثرها الغائب إلا من خلال استدعائها عبر محكيات قصيرة متخيلة، اختار لها الكاتب أن تجتمع في كتاب خاص.

إنها نصوص بديلة على سبيل التعويض، تدوّن أحلامهم بافتراض لا يزعم صاحبها يقين تطابقها مع المنامات الأصليّة، بل يقرّ ويوصي بقراءتها كأوهام شاحبة أو ترميمات بعيدة عن الاحتمال.

الحلم في الكتاب لا يرتهن إلى وجود خطي، أحادي الرؤية، بل يتعدّد ويتلاون ويتباين وفق طريقة كتابته وزاوية الاشتغال عليه. يتأرجح حضوره بين توظيفه كحكاية داخل النص، تنتهي بانتهاء المنام، حيث يذيّل النص متنه السردي بنهاية حتمية هي الاستيقاظ من الحلم، وبين حضوره كمتن سردي يغطي كل النص، أي يتطابق مع القصة، ويصير هو نفسه النص، من الأول حتى المنتهى، وهنا يصعب الفصل بين الحلم والنص، إذ هما معا يتوطآن ويشكلان كيمياء سردية ذات وحدة متكاملة.

فضاء

فضلا عن حضوره عبر وجوه متباينة يتخطى كونه موضوعة، ويصير خلفية وفضاء، تقنية وأداة، أفقا ورؤيا، رمزا وعلامة، يتقصّد المؤلف اختياره الدقيق والواعي لشخوصه، فلا اعتباط يحكم منتخباته المسنونة، مشكّلا منهم – أي الشخوص - المجرات المؤسسة لكون الكتاب. شخوص شاء لهم أن يكونوا مبدعين بالضرورة، ينتمي غالبهم الى حقول الشعر والسرد والرسم، والقلة القليلة منهم إلى الموسيقى والفلسفة والمسرح.

يتقصّد المؤلف اختياره الدقيق والواعي لشخوصه فلا اعتباط يحكم منتخباته المسنونة

أن يكون شخوص الكتاب من الفنانين بالضرورة، فهذا يعني أن الكتاب يجاور منجزاتهم الإبداعية، يجترح كوة للدخول إلى عوالهم، كأنما يعرض مفاتيح لولوج حدائقهم السرية أو مطابخهم المجهولة. كذلك، يضيء بصورة من الصور، حيواتهم الغريبة ويقف عند لحظات مارقة من لغزية سيرهم المحتدمة.

عبر الحلم، يحتفي تابوكي بهذه الزمرة اللعينة من الكتاب الذين رسخوا في ذاكرته، وبينهم تتقاطع علامات للريبة والجنون والعبقرية والهذيان والعزلة والمجون والغرابة والغموض، هم على التوالي: مهندس متاهة كريت الشهير ديدالوس، صاحب التحولات الشاعر بوبيليوس أوفيد نازو، صاحب الحمار الذهبي لوكيوس أبوليوس، الشاعر تشكو أنجلوليري، صاحب الوصية الكبرى الشاعر فرنسوا فيون، صاحب "كركانتوا" الكاتب والراهب فرنسوا رابليه، صاحب لوحة "القديس متّى" الرسام ميكال أنجلو مريزي، صاحب لوحة "النزوات" الرسام فرانشيسكو غويا إلثينتس، صاحب ديوان "قوافي البحار القديم" الشاعر صموئيل كوليردج، الشاعر جياكومو ليوباردي، صاحب "دمية خشبية" الكاتب والمسرحي كارلو كولودي، صاحب "جزيرة الكنز" الكاتب والرحالة روبرت لويس ستيفنسن، صاحب "فصل في الجحيم" الشاعر أرثر رامبو، صاحب "بستان الكرز" القاص والمسرحي أنطون تشيخوف، الموسيقي كلود دوبوسي، الرسام هنري دو تولوز، الشاعر فرناندو بيسوا، صاحب "غيمة في بنطلون" الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي، صاحب "عرس الدم" الشاعر فيدريكو غارثيا لوركا، ومؤسس " علم النفس " سيغموند فرويد.

غرائبية

ولأنها أحلام، من المتوقع أن تكون ذات نزوع غرائبي، عجائبي، سوريالي، ولاعقلاني، تجافي المنطق، وتنأى عن المألوف والعادي والواقعي. غير أن لا معقوليتها ولا منطقيتها، لا يعني أنها تبتعد كليا عن حقائق وحوادث وعلامات دامغة لحيوات الشخوص وأعمالهم. بل مؤسسة على وقائع ووجوه وشخوص وإبداعات من تجارب هؤلاء، كأن يحلم ديدالوس بنفسه داخل متاهة قصر (وهنا المفارقة اللاذعة صانع متاهة كريت يقع ضحية لأروقة قصر مضللة ومتاهية) ويتوه في أروقته المتكرّرة إلى أن يلتقي ثورا (يحيل على ثور المينيتور في أسطورة متاهة كريت)، فيصنع له أجنحة من ريش وشمع (في الأسطورة صنع الأجنحة لابنه إيكاروس)، حتى يحقق له حلم الطيران إلى القمر. وفي منام آخر يرى أوفيد نفسه وقد تحول إلى فراشة (هنا يحيل الأمر على تحولات كتابه الموسوم بالاسم نفسه) ويحلّق إلى القيصر ناظما قصيدة مديح، علّه يصفح عنه بعد غضب من القيصر أفضى إلى نفيه بعيدا (هذا جانب حقيقي من سيرة أوفيد). وفي منام آخر ينقذ لوكيوس أبوليوس جحشا من مشهد ماجن مع ساحرة، وبعدها يخلصه من المسخ الذي طاله منها (إحالة إلى جحش كتابه الجحش أو الحمار الذهبي)... إلخ.

على هذا النحو، تتقاسم النصوص تجاربها الحلمية، باشتباكها المقصود مع وجوه إشارية من حيوات وإبداعات الشخوص الفنية المنتخبة دون أن تحافظ على ما هي عليه في نسختها الأصل، بل تعتمدها كإيماءات، وتبتكر لها مصائر مغايرة تماما، نقيضة أحيانا، ومنزاحة بشكل جذري أحيانا أخرى، مع نضوحها بمفارقات صارخة.

تشترك هذه النصوص في اعتماد مقدمة متشابهة ومتكررة بشكل أمين، قبل أن تختلف وتتباين وتفترق في متون حكاياتها، ثم تعود لتشترك في نهايات بعينها، والمقصود هنا فعل الاستيقاظ من الحلم في مختتم النص، فيما نهايات أخرى تمارس اختلافها باعتماد تذييلات غير متطابقة، ومخارج متنوعة ومتعددة.

فالنصوص التي تطابقت نهاياتها وتقاسمت فعل استيقاظ الشخصية الحالمة من معترك منامها، مما يعزز انفصالا بين سيرورة الحلم وسيرورة النص، هي أحلام كل من تشكو أنيو ليري، فرنسوا رابليه، غويا، كولريدج، ماياكوفسكي، لوركا، وفرويد.

والنصوص التي مهرت مختتم سرودها بنهايات مفتوحة، دون أن يستفيق الشخص الحالم من منامه ليتضح أن الأمر يتعلق بحلم لا غير، ولا تنفصل سيرورة النص عن سيرورة الحلم، بل يندمغان ويشكلان وحدة متكاملة، إذ لا نعرف أين ينتهي الحلم و أين ينتهي النص؟ هي نصوص وأحلام كل من: ديدالوس، أوفيد، فرنسوا فيون، كارلو كولودي، ستفنسن، رامبو، تشيخوف، كلود دوبوسي.

يحتفي تابوكي بهذه الزمرة اللعينة من الكتاب الذين رسخوا في ذاكرته، وبينهم تتقاطع علامات للريبة والجنون والعبقرية

والنصوص التي يعي الشخص الحالم بأنه يحلم داخل منامه، وهذا ما تحتفظ به النهاية على سبيل المفاجأة أو الختم المفارق، هي: أحلام كل من لوكيوس أبوليوس وجياكومو ليوباردي وفرناندو بيسوا.

والنصوص التي يواصل فيها الحالمون أحلامهم بعد الاستفاقة والاستيقاظ هي لكل من مايكل أنجلو ميريزي، وهنري دو تولوز لوتريك.

تكرار

ينفرد حلم واحد من أحلام هؤلاء في اختصاصه بميزة تكراره، أي أنه لم يراود الشخص الحالم مرة واحدة، بل ظل يراه مرات على طول فراسخ سنة بالكامل، إلى أن يراه للمرة الأخيرة من شهر أبريل/ نيسان، وهو الشهر الذي يشهد موته، يتعلق الأمر بحلم الشاعر الروسي ماياكوفسكي، والحلم هنا له طبيعة رؤيا نوهت وأشارت ونبهت إلى وشوك حتفه. وعن الأحلام الرؤيوية، التي استبقت موت أصحابها بقليل، كأنها دليل إلى حقيقة حدوث ذلك، إن بطريقة وشيكة وسريعة وآنية كما هو الشأن مع حلم فرويد الذي يرى نفسه وقد تحول إلى مريضته دورا، إذ يستفيق في تلك الليلة التي زاره المنام الكابوس، دون أن يعلم بأنها الليلة الأخيرة في حياته، وهنا مفارقة النص اللاذعة أو سخريته السوداء، فمؤسس علم النفس وأستاذ تفسير الأحلام، لم يدرك أن حلمه يضمر علامة موته الداهم. وينضاف إلى حلم فرويد، حلم الشاعر رامبو، الذي يراه في 23 يونيو/ حزيران 1891، وهي السنة التي يتوفى فيها بيوم 10 نوفمبر/ تشرين الثاني.

هكذا تتعالق الفصوص -20 فصّا- وتتوازى وتتشابك أو تلف في حلقات ومدارات، يرتهن إليها كتاب أنطونيو تابوكي، فيتخلق عنه بستان متخيّل يرتاده القارئ متنزّها في أحلام الآخرين، بدءا بعتبة ديدالوس المهندس وانتهاء بمفسّر الأحلام فرويد. ويتقصّد الكتاب أن يستهلّ حكاياته بمهندس متاهة شهير هو ديدالوس – كأنما يوهمنا من البداية بوجود متاهة مفترضة، ويختم الحكايات بمفسر أحلام ومفكك ألغاز ورموز وعلامات – كي يوهمنا في النهاية بوجود مخرج للغزية المتاهة أو تفكيك لغموضها – ومع الانتهاء من اكتشاف تجربة الكتاب يتضح أن الأمر لا يعدو أن يكون إيهاما بالفعل.

أتخيّل القارئ في وصوله نهاية البستان عند آخر حلم لفرويد، يقف فجأة ولا يتخطى باب الخروج منه، إذ يعي تماما بنقص في محكيات الكتاب، وجب عليه تداركه: هو أن يتخيل حلم مؤلف الكتاب: حلم أنطونيو تابوكي.

font change

مقالات ذات صلة