"عشرة أيام في غزة" يصوّر حرب إسرائيل على الأطفال

فيلم بناء على كتاب صدر في لندن يسجل المعاناة

Giuseppe Aquili
Giuseppe Aquili

"عشرة أيام في غزة" يصوّر حرب إسرائيل على الأطفال

لندن: من الصعب تصديق أنه منذ أشهر قليلة فقط (يناير/كانون الثاني الماضي)، وقفت محامية أيرلندية تمثل جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية لاتهام إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية. يومذاك، وصفت المحامية، بليني ني غراليغ، الأحداث في غزة بأنها "أول إبادة جماعية في التاريخ" يجري بثها "في وقت وقوعها بالفعل".

منذ تلك اللحظة، لم يتوقف الاستشهاد بتصريحاتها، وكذا فعلت نعومي كلاين في مقالتها في "غارديان" (14 مارس/آذار، 2024) حين كتبت، في تأكيد للتناقض المؤلم الذي صورته، عن الإبادة الجماعية التي كان العالم يتابع وقائعها لحظة حدوثها، ومع ذلك استطاع العالم "حجب الصور، وضبط الصرخات، ومجرد ... الاستمرار".

مقالة كلاين المثيرة للتفكير مستوحاة من جوناثان غليزر، مخرج فيلم "منطقة الاهتمام"، الذي كان لخطابه المحفّز في حفل توزيع جوائز الأوسكار صدى عميق. استخدم غليزر، وهو من أصل يهودي، مثله مثل كلاين، منصة المهرجان ليحيل التركيز من الفظائع التاريخية إلى الفظائع الحالية، وحث الجمهور على التفكير، "انظروا إلى ما نفعله الآن".

فقد نحو ألف طفل في غزة أطرافهم منذ بدء الصراع في أكتوبر، مما يجعلهم أكبر مجموعة من الأطفال مبتوري الأطراف في التاريخ المسجل

جاءت كلمات غليزر بعد أيام فقط من قيام آرون بوشنل، وهو جندي في القوات الجوية الأميركية يبلغ من العمر 25 عاما، بحرق نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن العاصمة، في احتجاج بثه على الهواء مباشرة على "فيسبوك".

فظائع

في كتابه "لا تنظر إلى اليسار"، يصف عاطف أبو سيف، وزير الثقافة السابق في السلطة الفلسطينية، كيف وجد نفسه في غزة مع اندلاع الحرب. ومن بين الفظائع التي فصلها، قصة الفتاة الصغيرة وسام، التي قُتلت عائلتها جميعها في غارة جوية. هي نفسها كانت قد تخرجت أخيرا من مدرسة الفنون. وجدها في المستشفى وقد بترت ساقاها وفقدت يدها اليمنى. وكانت تعاني من الهذيان، وتحلم أن أطرافها قد اختفت، سوى أنه لم يكن حلما، بل واقع رهيب" (الغارديان، 14 مارس/ آذار 2024).

ووفق تقديرات اليونيسيف، فقد نحو ألف طفل في غزة أطرافهم منذ بدء الصراع في أكتوبر/تشرين الأول، مما يجعلهم أكبر مجموعة من الأطفال مبتوري الأطراف في التاريخ المسجل، وفقا لغسان أبو ستة، جراح التجميل والترميم المقيم في لندن (نيويوركر، 21 مارس/آذار 2024). وقد زار أبو ستة أخيرا قطر، حيث وجد بعض هؤلاء الأطفال ملجأ، لتقديم خبرته، والتقى خلال زيارته صبيا في الرابعة عشرة من عمره فقد ساقه بعدما دفن تحت الأنقاض وقضى يوما كاملا في جوار جثة والدته المتوفاة، وهو يمسك بيدها. إن التفكير في مثل هذه التجارب المروعة أمر محزن للغاية. من الصعب أن نفهم مثل هذه المعاناة دون أن نتأثر بعمق. إن مجرد التفكير في مثل هذه الحسابات أمر مؤلم، ومن منا يستطيع أن يتخيل مثل هذه الأمور دون أن يتأثر بعمق؟

سبق أن أثر الموت المأسوي لطفل في صراع أسبق بشكل عميق على قرار بليني ني غراليغ ممارسة مهنة المحاماة. في عام 1976، أصيبت ماجيلا أوهير، وهي فتاة تبلغ من العمر 12 عاما من مقاطعة أرماغ، برصاصة قاتلة في ظهرها على يد جندي بريطاني. وتروي ني غراليغ: "كنت في الثانية عشرة من عمري عندما اكتشفت كتيبا عن ماجيلا أوهير في مكتبة والدتي. رأيت صورتها وعمرها على الغلاف، وقرأت الكتاب من الألف إلى الياء. قرأت كيف ماتت بين ذراعي والدها بعدما سمع الرصاصة فركض إليها. أعتقد أن السبب هو عمرها وحقيقة أنه لم تجر محاسبة أي شخص، وظروف القتل - حيث أُطلقت النار عليها أثناء سيرها على طول طريق ريفي مع مجموعة من الأطفال الآخرين، في طريقهم إلى "المناولة" في الكنيسة المحلية - الأمر الذي أثار غضبا خاصا وأثار مشاعر تلميذة الدير التي كنتُها في ذلك الوقت".

الرصاص المصبوب

ذهبت ني غراليغ إلى والدتها وهي تبكي وسألتها كيف يمكن أن يحدث مثل ذلك الشيء الفظيع، فردت الأم على ابنتها الصغيرة: افعلي شيئا حيال ذلك: "لا تزال كلمات أمي ترن في أذني، فقد أصابت وترا حساسا عميقا جدا. ولقد تمسكت بهذا الكتيب طوال هذه السنوات. وهو الآن موضوع في إطار فوق طاولة مكتبي كتذكير دائم لسبب اختياري لهذا المسار" (Irish Legal Times، 2 فبراير/شباط 2022).

تبقى الصورة الأكثر حزنا لتلك الفتاة الصغيرة في غزة وهي تقف بين أنقاض منزلها ولعبة الهاتف المحمول معلقة حول رقبتها

في حلول عام 2009، في أعقاب عملية "الرصاص المصبوب" التي شنتها إسرائيل، ذهبت ني غراليغ إلى قطاع غزة في مهمة قانونية لتقصي الحقائق وهي تتذكر ذلك قائلة: "إن وصف حجم الدمار والصدمة التي واجهتها في غزة أمر صعب جدا. لقد أثر ذلك بشكل عميق على حياتي المهنية".

وبعد مرور عام، قام ثلاثة مصورين بتوثيق سكان غزة الشباب، وأنتجوا فيلما بعنوان "عشرة أيام في غزة"، وهو تصوير مؤثر ومأسوي جميل لأطفال من المفترض أنهم أصبحوا الآن شبابا بالغين، على افتراض أنهم نجوا من القتل. كانت تلك الصور نذيرا للصور التي نراها اليوم لحظة وقوعها. مشاهد الدمار الذي لا ينتهي، والعربات التي تجرها الخيول، وبقايا الحرب وضعت الخلفية لملعب مدمر وزلاجة مقلوبة. هذا الفيلم هو أساسا كتاب "عشرة أيام في غزة: رحلة إلى الماضي والحاضر والمستقبل" الذي صدر عن دار "هود أباسوف" ويحتوي على صور فوتوغرافية لجوزيبي أكويلي وأنتوني داوتون وجيم ماكفارلين. وتذهب جميع العائدات منه إلى FQMS (مؤسسة القدس لكليات الطب في فلسطين).

لاحظ المصور كيف أن الأطفال، الذين بدوا كالأشباح تقريبا، مروا من مسافة بعيدة. ومع ذلك، فإن العلاقة الحميمة المذهلة لهذه الصور، مقارنة بالصور الأحدث، تظهر مدى حميميتها. من الواضح على الفور مدى ثقة الأطفال بالرجال الذين يلتقطون صورهم. وكثيرون منهم يبتسمون بسعادة، مثل هذه الفتاة:

Anthony Dawton

... أو هؤلاء الفتيات الثلاث الحافيات تحت رسائل الزفاف المكتوبة في العطاطرة، وتكافح الفتاة الوسطى لكي تشكل بأصابعها علامة النصر:

Giuseppe Aquili

ويمتلئ آخرون بحزن لا يمكن وصفه، مثل هذا الصبي، الذي أظهر للمصور ثقبا في الحائط أحدثته قذيفة قال إنها أخطأته للتو:

Anthony Dawton

وتبقى الصورة الأكثر حزنا لتلك الفتاة الصغيرة في مدينة غزة، التي التقطها أنتوني داوتون، وهي تقف بين أنقاض منزلها، ولعبة الهاتف المحمول معلقة حول رقبتها. "قيل لي إن والدتها قُتلت عندما قصف المنزل، وإن الطفلة تحاول الاتصال بها على "هاتفها"" (غارديان، 25 كانون الثاني/يناير 2024).

Anthony Dawton

وقد وصف جيمس إلدر، المتحدث باسم منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، الصراع الحالي بأنه حرب على الأطفال:"بمجرد أن تقود سيارتك عبر الشمال، تصدمك الإشارة العالمية الدالة على الجوع المتمثلة في وضع الناس أيديهم على أفواههم. الكثير من الأطفال والنساء بوجوه هزيلة للغاية. في خانيونس، هناك إبادة تامة... نشهد حالات سوء تغذية حادة... أطفال على شفا الموت، مجرد جلد وعظام... وهؤلاء هم الذين تمكنوا من الوصول إلى المستشفى" (غارديان، 22 مارس 2024) .

إغلاق العينين

في مقابلة مع كاثي نيومان على القناة الرابعة الإخبارية، روى إلدر قصة صبي فقد والديه وشقيقه التوأم في القصف الإسرائيلي، وفي لحظة عاطفية تلجلج في خطابه عندما كان يصف الصبي، وفي مرحلة ما خاطب محاورته باسم "غزة" بدلا من "كاثي": "كان(الصبي)كثيرا ما يغمض عينيه لفترة طويلة أثناء الحديث، وعندما سألته عن ذلك، أوضحت عمته أنه يخشى أن ينسى وجه والديه، فيغمض عينيه ليتخيلهما. وفي الآونة الأخيرة، كان يجلس بصمت، كما علمت، وعيناه مغمضتان. إنها أمة من الأطفال، أو مليون طفل، أو سمها ما شئت، يا غزة، من المبتورة أعضائهم".

ومن يدري؟ فقد يكون إغلاق العيون بمثابة الراحة الوحيدة لأولئك الذين شهدوا مثل هذه الأشياء.

وبالتوازي مع هذه الخلفية القاتمة، ظهرت صورة أكثر إثارة للقلق للصراع. وقام أفراد من جيش الدفاع الإسرائيلي بتحميل العديد من مقاطع الفيديو التي تظهرهم وهم يسخرون من محنة الفلسطينيين. وتظهر بعض مقاطع الفيديو جنودا يقومون بنهب الملابس الداخلية لنساء فلسطينيات وسط أنقاض منازلهن. وآخرون ينخرطون في ما يسمونه "الوجه العربي"، حيث يرتدون الحجاب، ويرسمون الحواجب، ويسودون الأسنان لتصوير الفلسطينيين بشكل كاريكاتيري والسخرية من ظروفهم المعيشية.

إنه تصوير للإبادة الجماعية واضح بشكل صارخ، ومع ذلك يجري التغاضي عنه بشكل صارخ أيضا

بعض مقاطع الفيديو هذه، التي صنفت ضمن اتجاه يسمى "الجهاد الغريب"، تشير ضمنا إلى أن الوفيات المبلغ عنها لأطفال أبرياء هي مجرد افتراءات دعائية: يظهر أحد مقاطع الفيديو ممثلة تلعب دور أم تحتضن "طفلا" يشبه رأسه ثمرة الكريب فروت مرسوما عليها وجه حزين بشكل فظ، في تلميح إلى أن التقارير عن الضحايا من الأطفال مفبركة أو مبالغ فيها.

ومع ذلك، يمكن لصورة واحدة في بعض الأحيان أن تلتقط الانقسام الشاسع بين الجانبين بشكل أكثر إثارة للمشاعر. قبل سنين، انتشرت بسرعة كبيرة صورة لمجموعة من الأصدقاء على الواجهة البحرية في بروكلين، يشاهدون احتراق البرجين التوأمين، وهم يشربون. وحتى يومنا هذا، لا تزال صحة تلك الصورة غير مؤكدة، لكن تأثيرها لم يتضاءل، وهو ما يعكس الطريقة المثيرة للقلق التي تنتشر فيها مثل هذه الصور مثل الفيروسات، كما يقولون.

سوى أن صورة غزة التي أتحدث عنها ليست زائفة بالتأكيد. وقد وصف المصور تسافرير أبايوف بالضبط كيف حصل على هذه الصورة: "في ذلك اليوم كنت أقود سيارتي ورأيت مجموعة من المجندات يصعدن إلى موقع دبابة على الجانب الإسرائيلي على بعد نحو 50 مترا من الحدود. لا أعتقد أن هؤلاء الجنديات يتمركزن عادة هناك. لقد صعدن للتو لإلقاء نظرة" (أسوشييتد برس).

إلا أنهن لم يلقين نظرة فحسب، بل انغمسن في التقاط صورة شخصية على قمة تلة عالية فوق الدمار الذي لحق بمدينة غزة. إنها صورة مثالية للطريقة التي يمكن للناس أن يواصلوا بها بكل سرور سعيهم وراء السعادة، تماما كما كانت عائلة هاس تفعل، على مقربة جحيم معسكر اعتقال أوشفيتز. إنه تصوير للإبادة الجماعية واضح بشكل صارخ، ومع ذلك يجري التغاضي عنه بشكل صارخ أيضا.

ويشير بنيامين كونكل بسخرية مريرة إلى هذه الصورة باسم the Zone of Pinterest"منطقة بينتريست".

font change

مقالات ذات صلة