150 عاما على ولادة الانطباعية التي لا تزال راهنة في عصرنا

ما الذي تكشفه هذه الحركة عن الفن اليوم؟

AFP
AFP
لوحة "القراءة" (ريدينغ - 1873) للرسامة الانطباعية الفرنسية بيرت موريسو (1841-1895)، في معرض "باريس 1874 اختراع الانطباعية".

150 عاما على ولادة الانطباعية التي لا تزال راهنة في عصرنا

لم يكن العالم دائما ساحة للمعجبين بكلود مونيه. فعندما وصف الناقد الفني لويس لوروا لوحة مونيه "انطباع، شروق الشمس"، قال بازدراء: "ورق الحائط في حالته الجنينية مكتمل أكثر من ذلك المشهد البحري". علقت لوحة ميناء ضبابي في نورماندي في معرض أقامته الجمعية المستقلة للرسامين والنحاتين والنقاشين، الذي افتتح في 15أبريل/ نيسان 1874. كانت بعض التعليقات على الأسلوب التخطيطي الذي اعتمده مونيه وبعض زملائه "المتمردين" لاذعة للغاية حتى لتبدو أشبه بإهانات متصيدي وسائل التواصل الاجتماعي في هذه الأيام، أكثر منها تعليقات فنية احترافية. فهذا ناقد آخر في سبعينات القرن التاسع عشر يصف الأسلوب الجديد، قائلا: "هذا هو المشهد المروع للتفاهة البشرية وقد ضلت طريقها إلى حد الخرف".

ونحن نتذكر اليوم معرض "جمعية المجهولين" هذا الذي أقيم قبل 150عاما، بوصفه لحظة ولادة الحركة الانطباعية. فقد أطلق ليروي آنذاك على الرسامين لقب "الانطباعيين"، على الرغم من أن الفنانين أنفسهم لم يتبنوا اللقب إلا بعد مضي عامين آخرين (كان الانطباع هو الرسم التخطيطي في لغة رسامي عام 1874). وأصبح هذا المعرض الآن موضوعا لمعرض آخر بعنوان "باريس 1874: اختراع الانطباعية"، والذي افتتح أخيرا في "متحف أورساي". وسينتقل هذا المعرض في سبتمبر/أيلول، من باريس إلى المعرض الوطني في واشنطن العاصمة.

تعد اللوحات الانطباعية اليوم من بين أكثر اللوحات المشهورة والمحبوبة والقيّمة، لذا من السهل علينا أن ننسى الصدمة التي شعر بها كثير من الناس عندما شاهدوها للمرة الأولى. وقد جفل الناس منها لموضوعها بقدر ضربات الفرشاة الخشنة وهي تصور تسرب الضوء الطبيعي. رفض فنانوها التركيز على موضوعات الرسم التقليدي – الأساطير الكلاسيكية والتاريخ والصور ذات الطابع المثالي – لصالح مشاهد الحياة المعاصرة، بما فيها المسرح وشوارع باريس.

نتذكر اليوم معرض "جمعية المجهولين" هذا الذي أقيم قبل 150عاما، بوصفه لحظة ولادة الحركة الانطباعية

كان مشروعهم ديمقراطيا ورأسماليا: فقد أراد الفنانون الـ 31 الذين شاركوا في معرض جمعية المجهولين اختيار أي عمل من أعمالهم للعرض وبيعه مباشرة. كان ذلك ردا على معرض رعته الحكومة وأقامته أكاديمية الفنون الجميلة، وعرضت فيه اللوحات أمام هيئة من المحلفين واتسم بذوق محافظ. بيعت أربع لوحات فقط خلال معرض الجمعية المجهولة. ثم انفضّت الشركة التي شكلت لتقديم العرض في غضون أشهر.

يمكن لمشاهدي هذه اللوحات الآتية من الماضي أن يروا فيها بعضا من التشابه مع الحاضر. فقد أثار الانطباعيون موضوع تدمير العالم الطبيعي، مع ما ألحقته السكك الحديد والمداخن من تغيير في البيئة النقية. كما رسموا لوحاتهم في ظلال العنف وانعدام اليقين السياسي: فقد ولدت الانطباعية بعد سنوات فقط من هزيمة فرنسا في حربها مع بروسيا وما تلاها من تمرد على الحكومة، عُرف باسم "كومونة باريس".

وتحدثت آن روبينز، القيّمة الفنية المشاركة في المعرض عن "الطريقة التي محا بها الفنانون أي شيء له علاقة بالحرب من لوحاتهم، سواء تعمدوا ذلك أو بلا وعي منهم "، مع تركيزهم بدلا من ذلك على "المشاهد السعيدة للحياة الحديثة"، هي "في حد ذاتها رائعة ومثيرة للاهتمام". وافترضت روبينز أن ذلك لا يختلف عن توق الناس إلى تجاوز العزلة والاضطرابات التي أحدثتها جائحة كوفيد - 19.

AFP
لوحة "La Danseuse" (يسار) (الراقصة - 1874) و"La Parisienne" (الباريسية - 1874) للرسام الانطباعي الفرنسي أوغست رينوار (1841-1919)، في معرض "باريس" "1874 اختراع الانطباعية".

تفاعل الانطباعيون أيضا مع التكنولوجيا الجديدة، التي أثرت في خلق الفن، كما هي الحال اليوم. لقد عملوا في الهواء الطلق بدلا من الاستوديوهات، وذلك بفضل اختراع الطلاء المحمول في الأنابيب. كما تأثرت لوحاتهم بابتكار آخر: التصوير الفوتوغرافي. فقد حاول بعض الفنانين الآخرين محاكاة الوضوح في التصوير الفوتوغرافي. ولكن مع ضربات فرشاة الانطباعيين الكثيفة والمرئية، يبدو أنهم يقولون: "انظر، هذا رسم وليس تصويرا فوتوغرافيا"، كما كتب فيليب هوك، مؤلف كتاب "الجائزة الكبرى"، الذي تحدث عن تاريخ الانطباعية.

شاهدناه من قبل

لقد أحسن "متحف أورساي" صنيعا عندما استخدم التكنولوجيا المبتكرة على نحو مناسب لعرض هذه الأعمال، وتسخير الواقع الافتراضي لتخيل كيف كان من الممكن للمعرض أن يبدو عليه في عام 1874. يمكن للزوار وضع سماعة الرأس والمضي بمرافقة مرشد في جولة واقعية على نحو مذهل. يمكنك تقريبا لمس اللوحات التي كان في مقدورك أن تشتري الواحدة منها في ذلك الوقت مقابل 1000فرنك (إن كنت تمتلكها). وحاول العديد من المتاحف استخدام التكنولوجيا لاستكمال عروضه القديمة وجذب جمهور الشباب، إلا أن هذه واحدة من أنجح المحاولات حتى الآن.

AFP
لوحة "انطباع، شمس مشرقة" (1872) للرسام الانطباعي الفرنسي كلود مونيه (1840-1926) في "متحف أورساي".

يركز المعرض على عالم الفن في عام 1874، لكنه يجعلك تفكر في الوضع الحالي للفن. وهو يثير التساؤل عما حدث للطليعة اليوم. فالانطباعيون، من خلال الانتقال من صدمة الجماهير إلى الحصول على قبول واسع النطاق، وضعوا "نموذجا يتكرر بانتظام مع كل حركة فنية حداثية جديدة"، على قول هوك. وسيتلاعب الفنانون في العقود اللاحقة بالأسلوب والموضوع والشكل، في تحدّ للمشاهدين كي يفكروا ما هو الفن بالضبط، بدءا من مبولة مارسيل دوشامب الى سرير ترايسي إيمين الفوضوي.

من بين 31 فنانا شاركوا في معرض "جمعية المجهولين" عام 1874، لا يُذكر منهم اليوم سوى أقل من عشرة

أما اليوم فالتجارب الثورية قليلة جدا. ويقول أحد تجار الأعمال الفنية: "بات تحدي الفنانين لجمهورهم أقل اليوم بكثير مما كان سابقا"، بينما يرى أن الهندسة المعمارية المعاصرة أكثر استعدادا لكسر الأعراف. يوافق جوش باير، المستشار الفني ومدير المعارض الفنية، على ذلك قائلا: "في الوقت الذي اعتقدت فيه أن مزيدا من الفنانين سينخرطون أكثر في الشؤون السياسية، انكبوا كما يبدو على شؤونهم النفسية والشخصية على نحو محافظ أكثر". فتصوير الجمال والهوية الشخصية هما أكثر الانشغالات الفنية الشائعة اليوم. ويضيف باير: "اعتقدت أننا سنشهد شيئا يتسم بعدوانية أكثر من هذا بعض الشيء".

يضم معرض نيويورك "بينالي ويتني" هذا العام مجموعة من الأعمال الأنيقة التي لا تتسم بالإقدام ولا تحمل سوى القليل من المخاطرة. أما مهرجان بينالي البندقية، الذي افتتح في 20 أبريل/ نيسان، فهو حدث آخر يبهر الأنفاس. وغالبا ما يوصف مع وجود الجوائز والأجنحة، بأنه أولمبياد عالم الفن، وعادة ما تلتقط أعماله روح العصر. موضوع هذا العام هو "الأجانب في كل مكان" ويركز على الفنانين الذين تجعلهم هويتهم وحياتهم الجنسية غرباء.

AFP
"بورتريه مدام إدما بونتيلون" (يسار) (1871)، و"لو بيرسو" (يمين) (المهد - 1872) للرسام الانطباعي الفرنسي بيرث موريسوت (1841- 1895) و"Une Moderne Olympia" (في الوسط) (1870) للرسام الانطباعي الفرنسي بول سيزان.

يشعر الكثيرون أن الصوابية السياسية التي خنقت المعارضة في الحرم الجامعي، أصابت عالم الفن، حيث أصبح الفنانون خائفين من إثارة غضب الرأي العام والخروج على الإجماع. في ظل هذا المناخ السياسي الحالي، تشعر المتاحف بالخوف من تجاوز الحدود، كما تقول ليزلي راموس من شركة "تونتيث"، وهي شركة تقدم استشارات في مجال الفن والعمل الخيري: "يجب أن تكون المتاحف واعية إنما ليس بشدة، ومثيرة للاهتمام إنما ليست مدرسية للغاية، وليست باهظة الثمن إنما ليست رخيصة جدا". يلقي آخرون اللوم على الإنترنت: فالتركيز بات ينصب على إنشاء لوحات كبيرة نابضة بالحياة تبدو  جيدة على وسائل التواصل الاجتماعي.

ومن الممكن أن تباع تلك اللوحات التي يرسمها فنانون شباب (يطلق عليها مصطلح "ما فوق المعاصرة" بلغة اليوم، وفقا لكلير ماكندرو من شركة "آرتس إيكونوميكس" للأبحاث) بمبالغ مكونة من ستة وسبعة أرقام. وهنا يقدم الانطباعيون أيضا تذكيرا متواضعا. فمن بين 31 فنانا شاركوا في معرض جمعية المجهولين عام 1874، لا يُذكر منهم اليوم سوى أقل من عشرة. وتقول السيدة روبينز من "متحف أورساي" إن بعض هذه الأعمال لفها الغموض حتى أن أمناء المتحف لم يتمكنوا من العثور على شيء يخصها تقريبا.

وتشير الاحتمالات إلى أن الفنانين الراهنين الذين سيحتفى بهم بعد 150عاما سيكونون أقل من ذلك. وكما تقول هيلينا نيومان، من دار سوثبيز للمزادات: "انظر إلى ما نراه اليوم، ونحن نعلم في أعماقنا أن القليل منه فقط سيصمد أمام اختبار الزمن".

font change

مقالات ذات صلة