أجمل ما يمكن للمرء فعله، قراءة كتاب "أنبئوني بالرؤيا" للأكاديمي والمفكر عبد الفتاح كيليطو. كتابٌ صغير الحجم، لكنه تحفة أدبية، بل إتحافٌ يستند إلى وعي جمالي، مع سرد يشبه الحلم من الصفحة الأولى. فمن خلال كيليطو الذي قرأ "ألف ليلة وليلة" مذ كان طفلا نائما في غرفة جدته، ووجد المجلد قرب السرير، لم يبرحه الخيال إلى كتابه "أنبئوني"، ليطرح ثلاثة أسئلة كبرى من البداية إلى النهاية:
ما هي "ألف ليلة وليلة"؟ وكيف يمكننا قراءة "لياليها"؟ ثم كيفية إعادة كتابتها؟
كتابٌ أدبي ونقدي معا، ليأتي سؤال القارئ لا محال: هل هذه رواية أم اختبار؟ أم نص مكتوب من أجل إعادة قراءة "الليالي" والكلاسيكيات الأخرى؟ أم كَتَبَ كيليطو من أجل تجديد الذاكرة الأدبية العربية، بعيدا من المتطفلين؟
كتاب "أنبئوني بالرؤيا" يقبض على حكايات شيقة، من خلال الملك شهريار الذي يتعذر علاجه، راغبا بالمزيد من الحكايا، إلى بقية الملوك، مثل نبوخذ نصر الذي حلم يوما وطلب من المنجمين تفسير حلمه. سألوه عن الحلم، فهددهم بالقتل إن لم يخبروه هم عن حلمه. وهذا ما جرى لهارون الرشيد الذي انقبض صدره في إحدى الليالي، فاقترح وزيره جعفر قراءة كتاب، قرأ الرشيد كتابا، فأخذ يضحك فقرأ المزيد، ثم بكى... سأله الوزير عن علة ضحكه وبكائه، ليوبخه الرشيد، فعليه أن يعرف النص الذي دعاه إلى الضحك والبكاء، وإلا قتله.
هل القصص نسخ مكررة؟ أم أنه تاريخ الحكم المطلق الذي يحرم السؤال في حضرته؟
أتساءل هنا: هل القصص نسخ مكررة؟ أم أنه تاريخ الحكم المطلق الذي يحرم السؤال في حضرته؟ أم الفضول الموجّه إلى غير موضعه من العروش الحالمة في لياليها، ليصبح بين هارون الرشيد ونبوخذ نصر رؤى المُلك بلا نهاية، مثل شهريار المفتون بالقصص وسماعها من شهرزاد المهددة بالقتل، من أجل استمرار العرش دون تفسير؟
يمضي كليطو في سفره العظيم سردا، إلى المعتمد بن عبّاد، آخر ملوك بني العباد في الأندلس، وزوجته، قبل العرش وبعده، والمعاني التي واجهها في واقع نافذة سجنه بـ"أغمات"وهو يخاطب الغراب الأعور الشؤم، ليتحول الغراب فجأة إلى أمل، ما أن رأى من بعيد زوجته الحافية آتية إليه، ملكته تسعى على قدميها لتلحق به، مواجها حلم العوز والفقر بعد سلطة. وشخصيتان مقيدتان بالأغلال، كما هي ليالي شهريار وشهرزاد وقيد القصص تباعا دون أن تأتي النهاية، لتبقى الأسئلة بلا جواب: أين حكاية الليلة الأخيرة؟ وأين ذهبت شهرزاد بعد تلك الليلة؟ وهل كتبت لياليها في كتاب؟ وهل عالج أدب القصص شهريار المريض بالقتل؟ وأخيرا هل نستطيع نحن إكمال الليلة الثانية بعد الألف؟
كل من يقرأ كتاب كليطو، يجده رواية، وسيرة ذاتية، وقصصا قصيرة من التراث العربي والشرقي، ونقدا، ومقالات، لكن بلا فوضى، والأهم تساؤلات نقدية موجهة الى السرد العربي، عن كتاب "الليالي"، المثير للاهتمام. أسئلة عميقة ومبتكرة، تواجه الحقائق المنسية، وما كان في الحسبان، ومن دون إجابات نهائية، فلا نهاية لألف ليلة وليلة، كاشفا كليطو النَّسْخ في تاريخ القصص، من الماضي طفيليّي الثقافة في حاضرنا، والشلليين المتأهبين في كل ندوة ومعرض، وهم يتظاهرون بالمعرفة... مع أن كليطو يعود بذاكرة العربي إلى الصحراء، وبالأوروبي إلى أثينا، وكيف أن ذاكرة العربي تبدو أطول من ذاكرة الأوروبي، وهو يعبر خمسة عشر قرنا، يصل المعلقات، والشنفرى، كذاكرة لغوية عربية، مقارنة بفرنسا مثلا، فذاكرتها اللغوية لا تتعدى الخمسة قرون. يبدأ من الشاعر فرنسوا فيلون، ويستمر إلى الكاتب رابليه، ثم إلى ميشال دو موننان، أهم كتاب العصور الوسطى، وأصوات أخرى لا يستطيع الفرنسي اليوم قراءتها لتغييرات لغوية، بينما العربي يتمكن حتى اليوم من قراءة إرث أجداده الأدباء القدماء، يفكك ابن المفقع من 12 قرنا، والتوحيدي من ألف عام، ونصوص المعري والمتنبي والجاحظ وابن رشد... لغة العرب ثابتة ومحلقة في آن، لغة اليقين والشك، بعيدا من المدعين والمقلدين في أيامنا هذه.
يقترب كيليطو من النهاية وبطريقته الخاصة وبروح دعابة عالية وواثقة، بعدما جمع بين الذكريات وتقارير السفر وتأملات في الكتابة والقراءة
ولكن بعد هذا السفر القصير الغني، الباحث عن الهوية بين الحدود، منذ أن بدأت دهشة الغرب من "الليالي"، أي منذ أكثر من قرن وربع قرن، وبالتحديد بعدما منحها المستشرق ريتشارد بيرتن الترجمة المثلى، فانتبهنا نحن العرب إليها، نسأل أين كنّا منذ ألف عام عن هذه "الليالي" التي كانت تسمى "أسمار الليالي للعرب مما يتضمن الفكاهة ويورث الطرب"؟
في عبارة أخرى، يعيد عبد الفتاح كيليطو في هذا الكتاب، تأهيل الأدب، باعتباره متأملا وناقدا، والأهم حساسا، فالحلم في "الليالي" يعزز الخيال، وهو مكان الحساسية، وإعادة التساؤل حول الفرق بين الشرق والغرب، سيكولوجيا.
أخيرا، وبعد أربعة فصول، يقترب كيليطو من النهاية وبطريقته الخاصة وبروح دعابة عالية وواثقة، بعدما جمع بين الذكريات وتقارير السفر وتأملات في الكتابة والقراءة... جَرّد الأفكار وجعلها مكشوفة، وكأنه الوحيد الذي يحمل السر، كمتذوق تارة وكناقد تارة أخرى، حاك الصفحات المجزأة بشجاعة، حجة إخبارنا عن يقظة الليلة الثانية بعد الألف.