الطموح المزدوج لـ"المرشد" الإيراني

يقضي جُل وقته في بناء قوات "محور الممانعة"

دينا سوتيه
دينا سوتيه

الطموح المزدوج لـ"المرشد" الإيراني

لم يسبق لإيران قط أن قصفت إسرائيل بوابل من الطائرات المسيرة والصواريخ كتلك التي أطلقتها يوم 13 أبريل/نيسان، بيد أن ذلك لم يكن خارج التوقعات نهائيا. وبينما تجاوز نطاق الهجوم ما توقعه الكثيرون منا، فإن مقوماته الأساسية لم تكن مفاجئة.

وقد وقعت إيران تحت ضغط مؤيديها الذين أبدوا حماسة كبيرة للرد على الهجوم الإسرائيلي على قنصليتها في دمشق أول أبريل، وأدى لمقتل عدد من المسؤولين في "الحرس الثوري"، بينهم قائد هذا الجهاز في منطقة المشرق العربي. غير أنها أرادت في الوقت نفسه أن تتجنب التورط في صراع مباشر مع إسرائيل قد يكون فيه انتحار لها. وعندما جاء الهجوم الذي طال انتظاره أخيرا، جاء مصحوبا بجرعة كبيرة من الدعاية، إذ سعت إيران إلى الاستفادة بأقصى ما يمكن من الطبيعة التاريخية لكونه أول هجوم على الإطلاق.

أما من الناحية العملية، فإن المقذوفات الـ330 التي أطلقت من الأراضي الإيرانية، فضلا عن عشرات القذائف التي أطلقها "حزب الله" من لبنان والحوثيون من اليمن، لم تتسبب في إصابة واحدة في إسرائيل، كما لم تدمر أي بنية تحتية مهمة. الضحية الحقيقية الوحيدة لهذا الهجوم كانت فتاة بدوية عربية تبلغ من العمر سبع سنوات تعيش في جنوب إسرائيل، وقد أصيبت للأسف بجروح خطيرة.

من انتصر؟

تدور الآن حرب روايات بشأن الهجمات بين جميع الأطراف، إذ تدعي كل من طهران وتل أبيب أنها أحرزت النصر فيها. وثمة أسئلة مهمة: هل صحيح أن إيران كانت تريد أن لا يصيب هجومها أحدا بأذى أم إن هذا كان نتيجة للدفاع الجوي الإسرائيلي الممتاز فقط؟ وهل صحيح أن إيران حذرت مسبقا الولايات المتحدة ودول المنطقة أكثر من مرة لكي تتمكن إسرائيل من أن تدافع عن نفسها بسهولة، وبمساعدة الأردن على الأخص؟

ثمة إجابات مختلفة على هذه الأسئلة تقدمها الأطراف المعنية ووسائل الإعلام التابعة لها والمحللون المنحازون والمصادر التي لا تذكر اسمها، وقد لمحوا للصحافيين تلميحا. فالولايات المتحدة مثلا تنفي بشدة أنها كانت على علم بالتفاصيل الدقيقة للهجوم، وهذا جزء من موقف محكم مكنها من أن تعلن النصر لنفسها ولإسرائيل، بينما تمارس الضغط أيضا على تل أبيب كي تبدي ضبطا للنفس في ردها المقبل. وبعبارة أبسط، إذا اقتنعت إسرائيل بأنها قد خرجت من هذه المعركة "رابحة"، فسوف تقل حاجتها إلى رد فعل عنيف.

كما تحاول إسرائيل من جانبها، ادعاء النصر بتأكيد أنها أسقطت 99 في المئة من المقذوفات (وهو ما يشدد عليه كثيرا المتحدث الرسمي باسمها باللغة الفارسية في رسائله) ولكنها تكرر أيضا أنها تحتفظ بحق الرد.

تمكنت إيران من حشد عشرات الآلاف من الجنود الشيعة الأفغان والباكستانيين والعراقيين والسوريين وحتى النيجيريين، لحماية الرئيس السوري بشار الأسد

أما على المنقلب الآخر، فتتحدث إيران المتمرسة طويلا في البروباغندا المعقدة والمتعددة الطبقات، كدأبها دوما، بلسانين. لسان تنطق به عبر كثير من وسائل الإعلام التابعة لها، وعلى الأخص تلك الموجودة في مختلف البلدان العربية، فتنسج أوهاما صريحة كي تزعم أنها حققت انتصارات كبيرة لصالحها. فقد زعم أحدهم أن 44 من عملاء الموساد قتلوا في الهجوم. بينما لجأ آخرون إلى إعادة نشر الخبر الكاذب الشائع كثيرا مع مقاطع فيديو تظهر طوابير من الإسرائيليين يتزاحمون في المطارات الإسرائيلية، ولكنها مقاطع قديمة تعود لسنوات مضت، ليدّعوا أن "الصهاينة يفرون" من البلاد. أما اللسان الثاني الذي تستخدمه إيران في الوقت نفسه، فهو الذي يبذل عبره المتحدثون العسكريون والدبلوماسيون الرسميون في إيران قصارى جهدهم لتعريف الهجوم حسب ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي (كرد على هجوم إسرائيل أول أبريل) وتأكيدهم على أن الأمر "انتهى برمته" الآن، وأن إيران لم تكن تتطلع للدخول في صراع أوسع. بل أكد بعض الدبلوماسيين أن إيران هاجمت المراكز العسكرية فقط وليس المراكز المدنية أو المراكز الاقتصادية. وهذا أمر جدير بالملاحظة لأن النظام لا يميز في العادة بين الجنود الإسرائيليين والمدنيين، كما ظهر في دعمه الصريح والحماسي للهجمات التي شنتها "حماس" على المدنيين الإسرائيليين في 7 أكتوبر/تشرين الأول.

أي جانب نصدق وأي إصدار؟

لو رجعنا للوراء خطوة ومحونا عن أعيننا ضباب الحرب، لاتضح لنا أن الهجمات التي شنتها إيران لا تزال جزءا منسجما مع الاستراتيجية العامة التي دأب "المرشد" علي خامنئي على اتباعها بإصرار طيلة سنوات. ويعرف عن خامنئي مفهومه عن "الصبر الاستراتيجي"، والذي يقضي بأن تتمهل إيران وتنتظر زمنها المناسب، فتطور صناعة عسكرية محلية رغم العقوبات القاسية المفروضة على البلاد، وتدعم مظلة من الميليشيات الإسلامية في المنطقة وخارجها استعدادا لذلك اليوم الذي يمكنهم فيه أخيرا مواجهة إسرائيل في معركة نهائية فاصلة تتحقق معها الأهداف الثورية للجمهورية الإسلامية والمثل العليا لمؤسسها آية الله روح الله الخميني.

ما الأهداف والمثل العليا؟

غالبا ما كان الجواب على هذا السؤال كلمة واحدة: الطائفية، لدى من تابعوا سياسات المنطقة في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. فقد وفرت العداوات المفترضة بين فرعي الإسلام السني والشيعي إطارا سهلا- وكسولا- للمحللين الخارجيين، وتأكيدا لمنظور من يتبنون التفسير الطائفي للأحداث، الذين ظنوا أنهم بهذا المنظور قادرون على تفسير كل صراع في المنطقة.

وبما أن إيران تمكنت من حشد عشرات الآلاف من الجنود الشيعة، من الأفغان والباكستانيين إلى العراقيين والسوريين وحتى النيجيريين، وتشكيلهم في جيش قوي متعدد الجنسيات لحماية الرئيس السوري بشار الأسد، الشيعي اسميا، بدا الأمر وكأن في ذلك ما يدعم هذا التحليل. وحتى تحالف إيران القوي مع حركة "حماس" الفلسطينية السنية قد اهتز عندما دعمت الأخيرة المعارضة السورية ضد الأسد وتخلت عن مقرها في دمشق في هذه العملية.

"تدمير إسرائيل" هو الهدف الذي مكن إيران ذات الأغلبية الشيعية من إظهار حماستها الثورية لإحراج جيرانها من الأغلبية السنية

 لكن هذا الإطار لم يكن مرضيا على الإطلاق، وأي شخص ينظر على نحو أعمق في تاريخ وأيديولوجيا الخميني وخامنئي يمكنه أن يرى أن طموحاتهما تتجاوز بكثير قيادة معسكر طائفي في العالم الإسلامي. بالطبع، كان الخميني بوصفه "المرشد"، ملتزما بأساسيات المذهب الشيعي في الإسلام، لكن سياساته كانت تنتمي لسياسات الإسلاموية الدولية ذات الطموح لإعادة تشكيل النظام العالمي. وبما أن خامنئي كان على الدوام ثوريا خمينيا، فهو ملتزم أيضا بهذه الرؤية ومنذ زمن بعيد.

ولكن لو حاول الخميني أو خامنئي أن يكتفيا بتوظيف كل شيء خدمة لهذه الرؤية، لما استمرا طويلا كـ"مرشدين" لدولة يبلغ عدد سكانها عشرات الملايين، وبلد أهله وطنيون بقوة. لقد اتضح لهما، بعد وقت قصير من عام 1979، أنهما إذا أرادا البقاء في السلطة، فعليهما تقديم التنازلات والتروي في أخذ قراراتهما. وهنا جاءت مرونتهما الاستراتيجية. فقد قرر الخميني في وقت مبكر أن الحفاظ على الجمهورية الإسلامية والاحتفاظ بالسلطة يأتي قبل أي حكم ديني آخر.

تدمير إسرائيل

إذا كان هناك هدف أساسي لهذه الرؤية، فهو تدمير إسرائيل، وهو الهدف الذي مكن إيران ذات الأغلبية الشيعية من إظهار حماستها الثورية لإحراج جيرانها من الأغلبية السنية. لقد ولدت إيران في لحظة مناسبة لتحقيق مثل هذا الهدف: ففي عام 1979، بعد وقت قصير من قيام مصر- الدولة الرائدة في العالم العربي- بإحداث تحول تاريخي في توجهاتها من خلال التوقيع على اتفاقات كامب ديفيد مع إسرائيل والولايات المتحدة، وبعد طرد مصر من جامعة الدول العربية، حاولت إيران أن ترث عباءة "معاداة الصهيونية". ولكن المشهد الجيوسياسي تعقد أكثر في الثمانينات عندما انخرط العراق، في عهد صدام حسين، وكان العدو العربي الرئيس لإسرائيل في ذلك الوقت، في حرب استمرت ثماني سنوات مع إيران، قامت فيها إسرائيل بدعم إيران سرا. ولكن في العقد نفسه، مهدت ديناميكية أخرى الطريق للصراع الإيراني الإسرائيلي المقبل: غزت إسرائيل لبنان عام 1982 عندما كان عملاء "الحرس الثوري" الإيراني ينظمون سكانها الشيعة في جنوبها، وسرعان ما أسست "حزب الله" الذي أصبح منذ فترة طويلة مصدر القلق الرئيس لإسرائيل على حدودها الشمالية.

في البداية، كان "حزب الله" يهدف إلى نقل نظام ولاية الفقيه الإيراني إلى لبنان، ولكن تنوع المجتمع اللبناني المتعدد الطوائف، والذي يضم عددا كبيرا من السكان غير الشيعة وغير المسلمين، جعل تحقيق ذلك غير عملي. ولذلك، جعل "حزب الله" تشكيل هويته حول "معاداة الصهيونية" والمقاومة ضد إسرائيل، وهو الموقف الذي ميز الكثير من حلفائه داخل "محور المقاومة" الذي يقوده "الحرس الثوري" الإيراني.

نعم، كان الكثير من هذه القوى شيعيا، وخلال فترة الطائفية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، انخرطت في ارتكاب أعمال مروعة ضد السنة في أماكن مثل العراق وسوريا. ومع ذلك، أبقت أجندتها الأوسع متمحورة حول معارضة إسرائيل. وبعبارة أخرى، فإن كل ما تبقى الآن من الثورة العالمية الخمينية هو مزيج من الانتهازية الطائفية العرضية المتشابكة مع أجندة ثابتة مناهضة للصهيونية.

بناء "المحور"

يقضي خامنئي جُل وقته في بناء قوات "محور المقاومة"، ولكنه يدرك جيدا أنه لن يرى النصر النهائي المفترض على إسرائيل في حياته، وهو الذي يحتفل ببلوغه الخامسة والثمانين. لقد تنبأ أن إسرائيل سوف تدمر بحلول عام 2040. وما لم يبلغ من العمر 110 سنوات، فإنه لن يكون على قيد الحياة حينها، ولذلك لا يضره كثيرا أن يطلق مثل هذا النبوءة التي لن يشهد نجاحها أو فشلها في سنوات حياته.

 وبطبيعة الحال، لن تكتمل "الثورة الخمينية" بتدمير إسرائيل فحسب، بل تهدف أيضا إلى قلب المشهد السياسي في دول أخرى بالمنطقة من خلال دعم الميليشيات المختلفة.

تحدد هذه الرؤية طويلة المدى بطبيعتها طموحات خامنئي المزدوجة: الحفاظ على السلطة والإبقاء على نظامه طوال حياته، بينما يسعى بحماس لتحقيق حلمه في تدمير إسرائيل وتحقيق الأهداف الثورية الأوسع، وضمان استمرار ذلك كله حتى بعد انتهاء عهده. ولذلك فإن مهاجمة إسرائيل لا تعدو كونها مناورة للحفاظ على صورته وإبراز عزمه على تدمير إسرائيل، لكنه مع ذلك يتجنب بعناية المواجهات المباشرة التي قد تعرض بقاء نظامه للخطر.

font change

مقالات ذات صلة