خرج خامنئي في لقاء له يطالب بجعل الحج هذه السنة حجَ براءة، مما أحدث موجة من التحليلات لهذه الكلمة، والحتمي فيها أنها جزء من حملة إيران للعبث السياسي والطائفي في ركن من أركان الإسلام، فللبراءة مدلولها التاريخي في المعتقدات التراثية الإمامية، ترتبط باعتقاد الإمامة الذي هو عندهم من أركان الإيمان، ومختصرها أنه لا ولاء بغير براء، ومقصدهم في هذا أنه لا ولاء لعلي بن أبي طالب، إلا بالبراءة من خصومه، التي تفسرها الكتب الاعتقادية بالبدء من أبي بكر وتسحبها على جميع الخلفاء باستثناء علي ومن رأوه إماما من ذريته.
على أن القضية تتجاوز المعتقد الطائفي، فتمتد إلى تفعيل شعارات الثورة الإيرانية، بأنهم يريدون البراءة من إسرائيل وأميركا (الشيطان الأكبر) وفق تعبير الخميني، في ظل الحرب المستعرة في غزة، على أن السياسة الإيرانية تلعب دورا مزدوجا في رسائلها، فمن جهة يخرج ممثلو إيران الرسميون بهيئات مدنية، ويتكلمون لغة سياسية، ويسعون إلى الحديث عن التعاون مع السعودية، وحرصهم على الاتفاق معها، وفي اليد الأخرى يخرج خامنئي مُعتما بهيئة رجل الدين، مستعملا بعض المصطلحات التراثية ويريد توجيه رسائل خاصة لجعل الحج كأنه مسرح للمظاهرات والاحتجاجات.
أعلن ولي العهد السعودي عن أزمة التفاهم مع النظام الإيراني في أكثر من مناسبة مشيرا إلى مشكلة في التعامل مع الازدواجية الإيرانية
هذه اللعبة المزدوجة تحمل رسائل متناقضة، فمن جهة تمد يدها للمصافحة، ومن جهة أخرى دعوة للتحرك داخل البلد الذي تمد يدك إليه، في تجاهل للتاريخ الإيراني بافتعال الأزمات خلال موسم الحج في الثمانينات، فكان لا بد أن تكون حريصة على عدم توجيه أي رسائل مريبة في شأن الحج نظرا إلى تاريخها غير المطمئن في هذا الملف، وهو ما ينسحب على حالهم مع القضية الفلسطينية، ففي حين رفعوا شعارات الانتصار للقضية الفلسطينية، فإنهم في الواقع كانوا عبئا على الفلسطينيين فمرة يصرحون بأنهم حريصون على حل سياسي، وأنهم لا يريدون أن تتسع حرب غزة، ويخرج المتحدث باسم "الحرس الثوري" ليقول إن العملية كانت انتقاما لقاسم سليماني، ومصدر إيراني آخر يقول إنه لا علاقة لهم بها، وإنهم لم يتجاوزوا القوانين الدولية في دعم أي نشاط لـ"حماس"... لقد كانوا في الواقع يمارسون العبث السياسي، عن طريق رسائلهم المتناقضة.
هذه الرسائل تعبر عن عدم وجود استراتيجية إيرانية منضبطة، وأنهم لا يزالون يتعاملون بمنطق التخبط الإعلامي في تصريحاتهم، فلا يستطيعون تجاوز اللغة الطائفية، ولا تجاوز تراث الخميني في فكرة تصدير الثورة الإيرانية، وفي الوقت نفسه يقولون إنهم حريصون على الاستقرار وإنهم يمدون أيديهم للاتفاق مع دول الجوار وعلى رأسها السعودية، وهو تناقض بنيت عليه فكرة الثورة الإسلامية في إيران نفسها، حين لعب الخميني دور ولاية الفقيه، والنيابة عن المعصوم، فتارة يستعمل اللغة الدينية بهالة العصمة، وتارة لغة السياسي الذي يعبر عن مصالح دولته، تارة باسم المذهب، وتارة باسم الدولة.
ويتناسى خامنئي أنه ليس محدَثا في كرسي الحكم بعد عقود من الممارسة السياسية، وبالتالي ما كان له أن يستعمل شعارات مرحلة المراهقة السياسية التي بدأتها الثورة الإيرانية 1979، وليس سرا النفوذ الإيراني في العراق وسوريا وغيرهما، ومع ذلك كانت إيران حريصة على التهدئة في مناطق نفوذها، ونقل الشعارات باسم (البراءة) إلى خارج تلك المناطق، مع السعودية بعد الاتفاق معها، وهو يعيد إيران إلى مربع أزمة الثقة، وكان ولي العهد السعودي قد أعلن عن أزمة التفاهم مع النظام الإيراني في أكثر من مناسبة منها تصريحه في 2017، الذي أظهر المشكلة في التعامل مع الازدواجية الإيرانية.
حين كان الرد الإيراني على استهداف قنصليتها في دمشق خاليا من الدماء، تطالب طهران غيرها بأن يخوض حربا ضروسا
ويمكن تلمس هذه الطريقة في التعامل مع مختلف القضايا، ففي الوقت الذي يدعون غيرهم إلى التظاهر السلمي، بل واستغلال الحج لأهداف سياسية، كانوا سباقين لقمع المظاهرات السلمية في إيران، ودعم قمع المتظاهرين في العراق، والتدخل العسكري الطائفي في سوريا، وفي حين يطالبون دولا بالإفساح لمخططهم فيها، كان عناصر الباسيج يستقبلون المواطن الإيراني بالسحل في الشوارع. وفي الوقت الذي لا تشكل فيه الجولان أي خطورة على إسرائيل، تعلن الأردن عن محاولة إيرانية للعبث بأمنها، وحين كان الرد الإيراني خاليا من الدماء ردا على استهداف قنصليتها في دمشق، تطالب غيرها بأن يخوض حربا ضروسا، هذه الطريقة في التعامل السياسي باتت أوضح اليوم من أمس، في ظل انتشار وسائل التواصل والإعلام، وتظهر مدى الثقة التي تمنحها إيران لاسمها، ولاتفاقاتها، ومدى تلونها الذي يوصل المشهد إلى مرحلة العبث السياسي.