باتت السينما اليوم في مقدمة الفنون التي تعمل على نقل ثقافة وحياة المجتمعات، كونها الأقدر على التعبير، إضافة إلى ما تملكه من مقومات ومؤثرات لمناقشة القضايا وتسليط الضوء عليها. ولعل القفزة التي نلمسها في تطور السينما السعودية تعكس اهتمام القائمين على هذا المحور المهم الذي بات بين أسرع الصناعات السينمائية العالمية تطورا ورغبة في اللحاق بالدول التي تجد في هذا المجال مصدرا للتسويق الفني ونقل ثقافتها وصورة مجتمعها وحضارتها الى العالم.
أكثر ما يدلل على ذلك هو النمو الفني المستمر والمتنوع في العمر القصير للفيلم السعودي مقارنة بأفلام الدول التي تجاوزت عشرات السنين في هذا المضمار الذي بات لها مصدر دخل قومي وأمان وظيفي لعشرات الآلاف.
من أجل أن تكتمل الصورة البانورامية لتطور أي قطاع سينمائي في العالم لا بد من إيجاد بيئة خصبة لجميع صنّاعها من خلال الإقرار بأن الفن ناقد لحياة المجتمع، وناقل لرؤاه وطموحاته ومستقبله، ومعالج لقضاياه المتجددة والمتغيرة والمتطورة مما يجعل رواده في حاجة مستمرة إلى بذل جهود مضاعفة وعوامل إضافية كتكثيف البرامج التدريبية، واستقطاب الخبرات الدولية، وتنويع المهرجانات الفنية في كل ما يتعلق بهذا المجال.
لا يمكننا إغفال المجهود العظيم الذي يقدمه ويبرزه مهرجان الأفلام السعودية الذي اختتم دورته العاشرة أخيرا
في معرض حديثنا عن ضرورة تنويع المهرجانات لا يمكننا إغفال المجهود العظيم الذي يقدمه ويبرزه مهرجان الأفلام السعودية الذي اختتم دورته العاشرة أخيرا وفي رصيده أكثر من 90 فعالية ثقافية سينمائية، و8 أيام تضافرت خلالها جهود مشتركة جمعت بين جمعية السينما، ومركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء) ودعم حثيث من وزارة الثقافة ممثلة في هيئة الأفلام.
يعتبر هذا المهرجان العملاق بجوائزه وبرامجه منفذا بارزا لتسويق الفيلم السعودي، ونقطة انطلاق وتحفيز له كونه يقام بجودة عالمية ويحضره كبار الممثلين والفنانين والخبراء والمخرجين العالميين، إضافة إلى أنه غدا اليوم حافزا قويا لمشاركة شركات الإنتاج السينمائي التي باتت ترى في السعودية بيئة محورية خصبة للأفلام ونقطة جذب صالحة للعرض والإنتاج والتصوير والتسويق والاستثمار.
وقد ظهرت في دورة المهرجان الحالية وجوه وأفكار وأفلام سينمائية جديدة يمكن اعتبارها قفزة إضافية مبشرة، أبرزها "بين الرمال" و "ذلك الشعور الذي" و"هجان" التي نالت جوائز هذا العام ضمن قائمة طويلة ضمّت 70 فيلما ساهمت جميعها في عرض قضايا وأفكار إخراجية وإنتاجية متطورة وسرّعت في نقل السينما المحلية إلى جوار قريناتها العربية والعالمية.
أمام هذه العلامات الدالة، علينا الابتهاج كوننا نشهد نقلة نوعية يمكنها اختصار الزمن لمستقبل الأفلام السعودية ليس على المستوى الإقليمي بل على المستوى الدولي الذي ساهم فيلم "نورة" في إيصالنا إليه من خلال مهرجان كانّ السينمائي في دورته الحالية 77، ليغدو بذلك أول فيلم سعودي يرشح إلى هذا المهرجان الدولي الرفيع.
استطاع هذا الفيلم الذي لعب دور بطولته كل من عبدالله السدحان، ويعقوب الفرحان، وماريا بحراوي، سيناريو توفيق الزايدي وإخراجه، حصد جائزة التمويل ودعم الأفلام من هيئة الأفلام ووزارة الثقافة السعودية في سبتمبر/ أيلول 2019، كما فاز بجائزة أفضل فيلم سعودي في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في دورته الثالثة لعام 2023، ووصل أخيرا إلى مهرجان كان.
إننا نقف اليوم أمام ثقافة فنية سعودية بامتياز تؤكدها لنا دور السينما في المملكة البالغ عددها 65 والمتوزعة على 20 مدينة، بمقاعد بلغت 61,246 مقعدا و593 شاشة عرض، و28 لغة. إنها أرقام تشير إلى حراك سينمائي يجتذب إليه المشاهد والمهتم السعودي ليضعه أمام منجزات كبيرة في أزمنة قصيرة خلفها حركة دؤوبة وعمل متقن وجهود جبّارة.
· نقف اليوم أمام ثقافة فنية سعودية بامتياز تؤكدها لنا دور السينما في المملكة البالغ عددها 65 والمتوزعة على 20 مدينة
لقد اعتنت هذه الجهود بالفيلم السعودي وقدمته إلى العالمية ثم ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك كإطلاقها "الموسوعة السعودية للسينما" التي تهدف إلى الارتقاء بجميع مراحل الصناعة السينمائية، وتعزيز المعرفة لدى صنّاع الأفلام، ودفع عجلة التأليف والترجمة في الحقول الخاصّة بصناعة الأفلام، كما تهدف إلى ترسيخ برنامج دوري لإنتاج الكتب باللغة العربية، وغيرها من الأهداف المهمة.
نحن اليوم أمام طموحات ومستهدفات سينمائية كبيرة مخطط لها، يجب تحقيقها قبل عام 2030، منها إنتاج 100 فيلم سعودي بمشاركة نجوم عالميين، إضافة إلى تحويل السعودية مركزا عالميا لتصوير وإنتاج الأعمال الفنية وجعلها نقطة جذب استثمارية في سوق السينما وغيرها من الطموحات التي ستتحقق لا محالة، شريطة أن تتضافر الجهود وتستمر في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية لتغدو السينما السعودية أكثر حضورا، ويصبح لدينا مئات الأمثلة من فيلم "نورة" الذي يشارك دوليا، ولنأخذ مكانا مرموقا في السينما العالمية.