عبد اللطيف عبد الحميد أحد رواد السينما السورية الجديدة

صاحب "نسيم الروح" و"ليالي ابن آوى" و"رسائل شفهية"

المخرج عبد اللطيف عبد الحميد

عبد اللطيف عبد الحميد أحد رواد السينما السورية الجديدة

غاب المخرج السينمائي السوري عبد اللطيف عبد الحميد في 15 مايو/ أيار 2024، تاركا وراءه إرثا ثريا من الأفلام التي تعكس الواقع السوري والعربي.

لا نعرف كيف انتقل عبد الحميد إلى السينما بعدما درس الموسيقى، لكننا نستطيع أن نعرف من خلال تجربته في الصورة كيف تتحدث طفولته عنه وكيف عكست تلك الصورة أيضا تجربة التعلم والنضج. كانت البداية من التخرج في موسكو ، معهد غيراسيموف للسينما، الذي يُعَدّ من أقدم المعاهد لدراسة السينما في العالم. ثم المسافة التي قطعها لكي يقف خلف الكاميرا، إذ عمل مساعد مخرج وممثلا أحيانا. لقد فهم المهنة مرتين: المرة الأولى من خلال تجربة السينما بوصفها وسيطا بين النص والمخرج، ثم من كونها عينه وذاكرته وسرده أيضا.

كانت تجاربه الإخراجية الأولى مذهلة بالنسبة إلى السوريين المخنوقين من كل شيء. كانت الثمانينات ونهايتها أشد فترات سوريا انغلاقا، تصاعدت أيديولوجيا السلطة ومقوماتها الخطابية التي لم تُثمر إلا ترديا ثقافيا وانعداما للحياة السياسية، ولم يتردد النظام في إغلاق كل مبادرة اجتماعية أو سياسية وثقافية تحيي السينما أو الفنون، فظهر فيلم "ليالي ابن آوى" 1989، كأول تجلّ لفن سوري ممكن عبر السينما دون رقابة من النظام أو اعتراض. معظم الأفلام السورية في تلك الفترة لم تحبذها السلطة، لكن هذا الفيلم استطاع أن يمرّ ويشكّل مفاجأة هائلة، وهو أحد أكثر الأفلام وضوحا عن تفكير عبد الحميد في السينما، ويرصد هزيمة 1967، لكن دون رصد لأي تحول في الشخصيات أو البنية الاجتماعية.

  ابتعد عن تقديم عمل يمسّ السلطة واتكأ على بناء بنية نفسية للشخصيات المهزومة بعيدا من مدارات قد تُصيب السلطة

مجتمع الريف

ابتعد عبد الحميد عن تقديم عمل يمسّ السلطة أو منهجها، واتكأ على بناء بنية نفسية للشخصيات المهزومة بعيدا من مدارات قد تُصيب السلطة. لم تكن النتيجة سيئة أبدا، اذ استطاع وضع ثيمة نفسية لأب متسلط يدمر عائلة كاملة بسوطه وقسوته، دون أن يُفقد النص والصورة طابعا ساخرا. يمضي الفيلم ببطء، والكوميديا ليست جزءا منه بقدر ما كانت الكوميديا أثرا لتأخر الريف السوري، الاقتصادي والثقافي، الذي عايشه عبد الحميد. "ابن آوى"رسم قسوة المجتمع الريفي وبساطته الثقافية، والعجز والخوف الذي يعانيه الأب في مواجهة الآخر، الذي يكون حيوانا، وعدوا خارجيا في نهاية المطاف. كانت المهادنة في الفيلم مع السلطة، حيث جعلها خارجة عن سياق الفعل، الطاغية هو الأب في المنزل، والآخر الخارجي الرهيب، أو الحيوانات المتوحشة.

كان انقطاع السوريين عن السينما سببا لشهرة عبد الحميد. انهارت السينما السورية مبكرا منذ مرحلة السبعينات، فكان صعود عبد الحميد في هذا الفيلم جذابا. وفيه كان الأثر الروسي شديد الوضوح، من حيث السرد البطيء، والعاطفة التي لا تظهر إلا بقسوة أو إيماء أو خجل، والرمزية أو تخفيف المباشرة، والتركيز على الفولكلور بالمعنى التراثي لمنطقة الساحل وتراث السلوكيات الزراعية لمنطقة عرفها جيدا. من هنا نفهم أن السيرة الطويلة لكل فيلم هي جزء من سرد ذاتي، لم يستطع أن ينقل عموميات التراث السوري عبر السينما، بل قال ما عرفه واختبره.

رسائل شفهية

في فيلمه الثاني، "رسائل شفهية"، غرق عبد اللطيف في صنع الشخصيات وجعل لكل شخصية ثيمة كوميدية، لكنه أوغل في المباشرة من خلال تقطيع الشخصيات ورسمها عبر كتابته، فلم يجعل شخصياته تمر دون تدقيق على مستوى صنع الشخصية الكوميدية، سواء في الشكل أو اللباس أو التصرفات. كل شخصية ستظهر بانطباع كوميدي عند المشاهد، ثم نقل الشخصيات الى بيئة يعرفها تماما، وهنا يظهر ما يُسمى "الكوميديا الطبيعية، أو الكوميديا الوضعية" التي تنتج حتما عن طبيعة الشخصيات المرسومة وبيئتها المختارة أيضا بعناية. ربما يكون "رسائل شفهية" أحد أكثر الأفلام مشاهدة في تاريخ السينما السورية. يذكر الكثيرون أنهم حضروه ثلاث مرات، كانت سوريا حينها بالكاد تتنفس، فقد نسي السوريون مراكز السينما، ولم يعد أي مخرج سوري مهتما بالعرض داخل سوريا. كان "رسائل شفهية" فيلما ساحرا للسوريين، ضاربا تاريخا من السينما الكوميدية لدريد لحام ونهاد قلعي وناجي جبر. بدا السوريون يتقولون الجُمل الساحلية في كل مكان، ومشاهد الحب الساخرة تقلد وتنشر.

   قد يكون "رسائل شفهية" أحد أكثر الأفلام مشاهدة في تاريخ السينما السورية

في "ليالي ابن آوى" و"رسائل شفهية"، تطفو معانٍ سينمائية خاصة بعبد الحميد، شخصيات انفعالية بطابع نفسي لكل شخصية، والمرأة إما أن تكون صامتة أو منفعلة شتامة، لكن في غياب رب العائلة. كشف عبد الحميد كثيرا من تناقضات المجتمع السوري الذي بقي ريفيا بسمات القلق والهيجان الانفعالي الدائم. وركز كثيرا على تصوير التفاصيل الريفية والطبيعية، وحافظ على آلية الكشف للضوء والظل بهدف التركيز على ظهور الشخصيات وعلى الطبيعة بلقطات واسعة الكادر، ضاجة بأصوات الحيوانات أو الطيور، لكنه لا يعطيها بعدا هادئا أو تأمليا، بل سريعا ما يقصيها من الهدوء والتأمل على الطريقة الروسية، في اتجاه آخر لظهور الانفعال في المشهد أو النص.

الأهم هو إدخال الطابع الكوميدي التقليدي بحيث تكون كل الشخصيات بتصرفاتها مضحكة فيزيائيا، مع كوميديا سوداء تعالج القضايا المؤلمة بكوميديا، وحيث يحمل العنف طابعا تهريجيا. فالشخصيات المعنفة في أفلام عبد الحميد تمارس عنفها بتهريج أكثر من كونه عنفا مؤلما للمشاهد. كانت روح عبد الحميد تلجأ الى كتابة الكثير من الشتائم لكل شخصية لتجعل الموقف الانفعالي تهريجا.

كان"رسائل شفهية"فيلما جماهيريا كوميديا، ولم يستطع تجاوز هذه الصفة رغم نجاحه مثل "ابن آوى". بدأت حينها بوصلة عبد الحميد الكاتب الرفيع على مستوى السيناريو بالتجدد،. "رسائل شفهية"نجح أكثر مما توقع، لا سيما في خلق شخصيات باسمه، كتابة وإخراجا. ويخطئ الكثير حينما ينسبون إلى مرحلة ما بعد القرن العشرين تأسيس كوميديا الشخصيات أو الكوميديا الوضعية للبيئة، أو حتى الكوميديا السوداء، كان عراب هذا عبد الحميد دون شك. لأنه استطاع وضع مركب للشخصية الكوميدية وهي تملك بنية متماسكة داخل النص.

خارج التغطية

توالت أفلام عبد الحميد، "قمران وزيتونة"، و"خارج التغطية".و هذا الأخير أثار الجدال، لتعرضه لمأساة المعتقلين السياسيين، لكن الفيلم لا يواجه السلطة بقدر ما يواجه المجتمع معزولا عن السلطة. يخلق عبد الحميد دوما بنى هامشية ويستند اليها، وذلك لينجو من أي رقيب. كان الفيلم عن رجل يعاني من التزام خُلقي وسياسي تجاه زوجة رفيقه المسجون. الفيلم ركز على مأساة المعتقلين، لكنه ارتكب مغالطة حسب الكثيرين، بالتشديد على جانب أحادي من قضية المعتقلين، في أن تصبح زوجة الرفيق متطلبة لكل شيء من رفيق زوجها الذي يعاني من أجلها ومن أجل عائلته، وصولا الى مأساة التواصل الجسدي بينهما. شكل الفيلم جرحا لدى طبقة المثقفين والمعتقلين السوريين، فرغم جرأته، بدا خاليا من معنى التجارب الإنسانية المريرة لحيوات المعتقلين السياسيين في سوريا. ولم يخل الفيلم من اقتباسات واضحة من روايات أميركا اللاتينية والمسرح الإسباني لفترة الديكتاتورية الملكية.

في الوقت نفسه حافظ عبد الحميد على رؤية واضحة لتشكيل الشخصية التي تملك بعدا نفسيا، ومشاهد تهريجية للشخصيات، وقصة حب، الحب الذي لم يخلُ فيلم واحد من أفلامه إلا بوصفه ألما ومأساة.

رغم جرأة "خارج التغطية" إلا أنه بدا خاليا من معنى التجارب الإنسانية المريرة لحيوات المعتقلين السياسيين 

الخروج من بيئة الساحل

بعد عام 2010 خرج عبد الحميد من بيئة الساحل بشكل كلي، ولهذا علامات جيدة، لم يعد يتكئ كثيرا على بيئة وضعية من الممكن فيها إعادة عقارب الساعة إلى الوراء للهروب من التحولات الاجتماعية أو الأثر السياسي، بدأت أفلامه تأخذ أشكالا جديدة، لكنه انتقل إلى التركيز على الحب، والفقد واستحالة الوصل بين المحبين. ما ظلّ ثابتا في أفلامه، هو محورية المرأة فيها. فالمرأة قوية مقموعة في "ليالي ابن آوى"، لكنها تطرد الأشباح ولا تعبر عاطفيا، مرغوبة ومعشوقة، ومن تختاره لا يحبها في "رسائل شفهية"، ومن يحبها يطلق النار على أنفه لكي تحبه، والرجل الذي يحب امرأتين في "خارج التغطية"، والحبيبة الميتة في "الإفطار الأخير"، والمرأة التي يتقاتل عليها الجميع في فيلم "طريق النحل"، هناك شيء يُستدل عليه في أن المرأة محركه الدرامي، المرأة المستحيلة والتي كانت أمه. لعبد الحميد تصريح عن تأخره في اكتشاف محبة أمه له، مما يذكرنا بفاغنر والشخصيات الأنثوية كلها التي خلقها في مسرحه الموسيقي بوصفها مرغوبة أو لا يمكن الوصول إليها أو يحصل عليها التنافس. نتحدث عن ابتعاده عن المرأة بوصفها شخصية تملك خللا فيزيائيا أو نفسيا، وعن جعل الرجال أصحاب شخصيات تهريجية. قسوة الحديث الشخصي الذي يمكن الاستماع فيه الى عبد الحميد يجعلنا نفهم الكثير مما وصل منه إلى السينما.

لم تنجح أفلام عبد الحميد التي خرج فيها من البيئة التي أحبها، وذلك لعدم قدرته على إبراز القسوة السورية بشقها الحديث، عيشا وثقافة وسياسة. كان يملك دائما خطا محددا، فيلمه يُبنى على كتلة محددة وسياق في اللهجة وطبيعة الشخصية. حينما بدأ تجربة فلمية مختلفة لم يستطع الحصول على النجاح نفسه، لكونه كثيرا ما غرق في ذاتيته. وحينما بنى قصصا حديثة كانت بسيطة وأقل تطورا دراميا وسينمائيا. لم يستطع الخروج من الطفل الذي نما في قرية صغيرة أمامها بحيرة وخلفه جبال شامخة وبشر يثقلون ذاكرته في بساطتهم. كان محايدا دوما وبعيدا عن أي مواجهة مع سلطة تقود تحولا اجتماعيا، وحينما يكون البشر يملكون شيئا ما غريبا وقاسيا يُبقيه ليقول عبر الكاميرا كُنت أنا هناك، وهذا ما نجح فيه لكنه لم يخبرنا تماما أين نحن الآن، سوى بعض السخرية التي بدت مفتاحا له في الكتابة والتأليف.

المخرج السينمائي السوري عبد اللطيف عبد الحميد

لم يُخرج عبد الحميد نصا لغيره. توتر الكتابة واتساع الصورة بقيا له، متحديا نفسه والآخرين، وهذا ما جعله حساسا للنقد. فالفيلم يخرج من كيانه كله، حيث لا يمكنه التملص من المسؤولية الكاملة عما يقدمه، بالتالي يجعله حادا أمام النقد. لم يكن باحثا عن الشهرة أو الجماهيرية، حتى أنه استغرب نجاح "رسائل شفهية" الذي أعطاه مفتاح الخارج والداخل على حد وصفه. حافظ عبد الحميد على بساطة إنسانية تشبه الشخصيات التي أحب أن يكتبها، وكأنه لا يصدق هذا العالم الحديث والمتوالي، ولا يريد انتزاع التحولات ولا مواجهة السياسات. كانت المهمة التي أحبها، رصد ما هو بسيط وحميمي في البشر، خلافا لمخرجي عصره الذين لمعوا في السينما البصرية والرمزية، وخلقوا شخصيات يتفاعل فيها التحول والتاريخ السوري. 

 لم تنجح أفلام عبد الحميد التي خرج فيها من البيئة التي أحبها، وذلك لعدم قدرته على إبراز القسوة السورية بشقها الحديث

بدأ عبد اللطيف عبد الحميد مسيرته السينمائية بفيلم التخرج، "تصبحون على خير" (1978)، وواصل إثراء السينما العربية بأعمال متنوعة ومؤثرة. من أفلامه الأخرى:

"درس قديم" (1980) - فيلم قصير.

"رأسا على عقب" (1982) - أول فيلم روائي طويل له.

"نسيم الروح" (1984).

"ما يطلبه المستمعون" (1986).

"صعود المطر" (1996).

أيام الضجر" (2000).

ذكريات حمص" (2011) - فيلم وثائقي.

حاز على عدد من الجوائز الدولية، منها جائزتان لأفضل فيلم عن "نسيم الروح" و"رسائل شفهية" في مهرجانات سينمائية بالشرق الأوسط، وجائزة أفضل إخراج في مهرجان أوروبي عن "ليالي ابن آوى".

font change

مقالات ذات صلة