لكن ما يُكسب "غزالي المدلل" قرابته المباشرة بالواقع، وخصامه الحميد مع الأشكال الفنية المعتادة، هو هذا الإخلاص إلى "اللامنطق الفني"، إن جاز التعبير، واحتواؤه على ثغر سردية، لا تفسير لها ربما، إلا المسافة التي كان على ريتشارد جاد، أن يجتازها، وهو يكتب عرضه، محوِّلا جلّاديه من أشخاص حقيقيين، يمكن التعرف اليهم وبالتالي التشهير بهم، إلى شخصيات فنية. على أي حال، استغرق بعض المشاهدين في محاولة تخمين من هم الأشخاص الحقيقيون، لا سيما داريان، الذي يقول دوني دان، إنه لا بد قد انتهك مئات الضحايا قبله، وسيواصل فعل ذلك، وكأن لا شيء تغيّر.
مسافة منهِكة بالطبع، وبالأخص حين نضيف إليها، معاناة ريتشارد الطويلة وتخبطه في فهم ما حدث له، بلا أي دعم. ينتهك الرجالُ النساء عادة، جنسيا ونفسيا واجتماعيا. يستغلون سلطاتهم العملية، ونجاحاتهم المهنية. لكنهم قد ينتهكون رجالا مثلهم كذلك، أضعف منهم اجتماعيا، ولعلّ التصريحات الأخيرة لبعض المشتغلين من الرجال في السينما الفرنسية، بأنهم قد تعرضوا لانتهاكات جنسية على أيدي صُناع مشاهير واضطروا بدورهم إلى الصمت، تقول بأن حركة التعبير النسوية العالمية ME TOO، في وسعها أن تستوعب الرجال أيضا كضحايا.
انحياز
في نصفه الثاني، ينحاز "غزالي المدلل" أكثر فأكثر إلى الواقع، متخذا خطوات أوسع من الفن، وكأنه يخالف الانطباع العام بالإضحاك والخفة الذي قدّمه لنا في النصف الأول. هذا التحوّل يشبه حقا ما فعله ريتشارد جاد الحقيقي، الذي تحوّل من فنان كوميدي، يقدم نكاته للمتفرجين، إلى مقدم لعرض تراجيدي مخيف، حين قدَّم قبل خمس سنوات عرضه المسرحي Monkey see, Monkey do، ومنه اقتبس "غزالي المدلل"، فيه إلى جانب الكوميديا، كان يروي ما حصل له وهو يجري على آلة الركض، خلفه دمية مخيفة لغوريلا. أي أن تمرير المأساة الشخصية، في الكوميديا، قد يكون سمة أسلوبية عند ريتشارد جاد، بطريقة تتناقض إلى حد ما مع التصنيفات المعتادة.
علاوة على ذلك، فإن "غزالي المدلل"، الذي تولت إخراجه مخرجتان هما: ڨيرونيكا توفيلسكا وجوزفين بورنباش، أضافتا رهافة أنثوية ضرورية على الهوية البصرية للعمل، يقدم شكليا فقط قصة لها بداية ووسط ونهاية. حكاية لها مركز، قد يكون طموح دوني المحبَط، أو هوس مارثا المرضي، أو حكمة تيري (الطبيبة النفسية العابرة جنسيا التي وقع في غرامها دوني لبعض الوقت) وقد تكون نقطة الضوء الوحيدة تقريبا في الحكاية. ومع ذلك، فإن العمل يبدو من الداخل، وكأنه بلا بداية تقريبا، إنما بدأنا نحن المتابعة من نقطة معينة في حياة دوني، وهو في هذه اللحظة البائسة من حياته، فلم نر مثلا أي إشارات الى الطريقة التي نشأ بها في أسرته، ولا طفولته، وكلها عوامل كان يمكن أن تساعدنا في فهم شخصيته. والدا دوني، لا نلقاهما إلا لماما في الحلقتين الأخيرتين فقط، ويظهران بصورة شبه إيجابية.
ينطبق الأمر نفسه على مارثا، فنحن نشاهد هوسها بدوني، واستيلاءها على حياته، ونسمع عمّا فعلته مع آخرين من قبله، لكن ليس لدينا إلا القليل جدا من المعلومات حولها، كيف آلت إلى ما هي عليه الآن؟ ألم يحاول أحد علاجها؟ في "غزالي المدلل" الطفولة ليست سوى نقاط بعيدة جدا، مهملة تقريبا، مع أنها وبلا شك، جذر الألم.
من جانب آخر، لا يظهر لنا أن رحلة دوني دان، التي بدأت من استعداده للسقوط، بسبب طموحه الكبير والتراجيدي، تمرّ بنقطة التنوير، مع أن نقطة التنوير تقع فعلا. دوني ليس مغفلا، لقد تمكن من أن يشهد على معاناته، كما ينصحنا كبار المعلمين الروحيين كي ننجو، ومع ذلك لم ينج. لا يقدم "غزالي المدلل" عِبرة، مع أن سلسلة من الجرائم المعتبرة قد وقعت. وهذه خطورته، إنه يشبه بالضبط حياتنا، حيث لا يمكننا الزعم أننا قد تعلمنا أو نجونا من التجربة، قد ننتكس في الغد، مع كل ما اكتسبناه من خبرة وعلم، وقد لا ننجو مطلقا.
أرض النرجسية الخصبة
ليس ثمة اضطراب نفسي تعاني منه مجتمعاتنا الحديثة، أكثر من النرجسية. يضم "يوتيوب" وحده محتوى غزيرا عن الاضطراب الشهير، وفي اللغات كافة. هناك آلاف المقاطع التي تساعد النساء على التعامل مع أزواجهم النرجسيين (على المستوى العربي هذه هي الصيغة الأشهر)، وكذلك كيفية مواجهة آثار ما بعد الصدمة التي تمتد تقريبا مدى الحياة، في حال كان أحد الأبوين نرجسيا (قناة الطبيبة النفسية الأميركية دكتور راماني، مثل جيد هنا). عصرنا الذي يعزز الاهتمام بالصورة الشخصية، ويجعل من الأشخاص العاديين مشاريع مشاهير، على منصات التواصل الاجتماعي مثل "تيك توك"، بات يغذي بشدة هذا الاستعداد الفطري للتمركز حول الذات، لكنه للمفارقة، يغذي أيضا مشاعر الوحدة، والانكشاف، والانفصال، والحاجة الهوسية إلى الآخر، والحالتان المتضادتان تشكلان معادلة النرجسية.