صراع تركي- كردي في قلب أوروبا

تتسبب الصراعات السياسية والعسكرية في توتر حاد بين المهاجرين والمقيمين

أ.ف.ب
أ.ف.ب
أنصار الجالية الكردية يتظاهرون حاملين الأعلام واللافتات بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لاعتقال زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان في ألمانيا في 17 فبراير2024

صراع تركي- كردي في قلب أوروبا

أعادت المواجهات الجماعية/العرقية الأخيرة بين المهاجرين الأتراك والأكراد في مدينتي لوفن وهيوسدن البلجيكيتين، وما تسببت فيه من قلق واستنفار أمني، مخاوف السلطات الحكومية من إمكانية خروجها عن السيطرة، خصوصا أنها توسعت من "موقعة" واحدة جرت في بلدة شمالي البلاد، إلى مناطق مختلفة منها، بما فيها العاصمة بروكسل، ولعدة أيام. كذلك توجست الأجهزة الأمنية البلجيكية من إمكانية استمرار الأحداث وتطورها، كما حدثت مرارا في أكثر من دولة أوروبية خلال السنوات الماضية.

الحادثة بدأت حينما اعترض عدد من الشبان الأتراك قافلة عائلات كردية محتفلة بمناسبة "عيد النوروز" في مدينة لوفن، طالبين منهم إنزال الصور والأعلام واللافتات الكردية، تطور الأمر سريعا إلى إطلاق النار على المحتفلين، جُرح على أثره خمسة منهم، وحُصر المتبقون في مكانهم لقرابة ساعة، إلى أن تدخلت قوات الأمن والشرطة. بعد ساعات قليلة انتشرت أنباء عن هجوم مجموعة من الأتراك على منازل المهاجرين الأكراد في الأحياء القريبة من مكان الحادثة، فتجمع المئات من الأكراد المقيمين في الجوار، وحدثت مواجهات عرقية في أكثر من مدينة خلال الليلة نفسها، استعمل المتواجهون خلالها الحجارة والعصي والشعارات العنصرية. في اليوم التالي تدافع عشرات الآلاف من الأكراد إلى وسط العاصمة بروكسل، رافعين الأعلام والشعارات الكردية، وهددوا بتنظيم عصيان وسط المدينة، فيما تعهدت السلطات المحلية بملاحقة المتسببين وتقديمهم للقضاء.

طوال السنوات الماضية، شهدت عدة دول أوروبية أحداثا مشابهة، خصوصا الدول المركزية الأربع، ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا، حيث تنتشر جاليات تركية وكردية كبيرة للغاية، تقدرهم الإحصاءات بأكثر من 3 ملايين تركي/كردي في ألمانيا وحدها، وقرابة مليون واحد في كل من الدول الأخرى.

ما لبث لحادث ما أن يجري، حتى ينزلق ويتحول إلى موجهات جماعية، تستهدف الآخرين وممتلكاتهم على اساس العرق والانتماء

عادة ما تتسبب الصراعات السياسية والعسكرية في منطقة الشرق الأوسط، بين الدولة التركية والجماعات والأحزاب السياسية الكردية، سواء في تركيا أو في سوريا والعراق، في توتر حاد بين المهاجرين والمقيمين من أبناء الجماعتين العرقيتين في الدول الأوروبية.

طوال السنوات العشر الأخيرة، صارت هذه المواجهات متواترة، فقد شهدت ألمانيا قبل عدة سنوات مواجهات عارمة، عقب أحداث مدينة هيرنة غربي ألمانيا، حينما واجه مالكو المطاعم الأتراك مظاهرة كردية وسط المدينة، فانتشرت الأحداث في مختلف الولايات، وصلت درجة ترجي السلطات السياسية المحلية القادة السياسيين والدينيين والمدنيين لدى الجماعتين التدخل وطلب الهدوء والتصرف لصالح الهدوء العام في البلاد. ومن قبلها كادت حادثة مقتل الناشطات السياسيات الكرديات الثلاث في العاصمة الفرنسية باريس أن تؤدي لأمر مماثل، كذلك حينما تم الهجوم على المقر الثقافي الكردي في المكان نفسه.

هواجس من التنظيم

لا تملك السلطات الأمنية والسياسية في هذه البلدان الأوروبية مشكلة كبيرة مع بعض المواجهات المحصورة في دائرة مصغرة، كالتي تحدث عادة بين طبقات المهاجرين المنحدرين من دول وأعراق وحساسيات مختلفة، حيث يتم التعامل معها كأحداث جنائية اعتيادية.

لكن اللافت للنظر هو دقة التنظيم العالي في المواجهات الكردية التركية في هذه الدول. فما لبث لحادث ما أن يجري، حتى ينزلق ويتحول إلى موجهات جماعية، تستهدف الآخرين وممتلكاتهم على أساس العرق والانتماء، لا على أساس الانخراط في الحادث من عدمه، وبالديناميكية نفسها تتوسع إلى خارج تلك البقعة تماما، وبين أناس لم يشهدوا أو حتى يعرفوا تفاصيل الحادثة/الشرارة.

وخلال أحداث المدينتين البلجيكيتين مؤخرا، توقفت الصحافة البلجيكية مطولا عند الآليات التي سمحت لعشرات الشبان الأتراك بالتجمع في مكان معين بذاته، في الوقت الذي كان معروفا فيه أن قافلة المحتفلين الأكراد ستمر عبرها ببطء شديد، وكيف لهم أن يكونوا مسلحين استعدادا للحدث، وكيف لواحد منهم أن يُحدد ويرسم مجموعة من الطلبات الواجب على المحتفلين الالتزام بها، أو مواجهة العنف.

الأمر نفسه يتعلق بالردود الكردية، فكيف تجمع المئات من الشبان في المكان عينه بعد ساعات قليلة، ومن هي الجهة التي دعت ونظمت تدفق عشرات الآلاف من الأكراد إلى العاصمة بروكسل في اليوم التالي، قادمين من مختلف مناطق البلاد وحتى باقي الدول الأوروبية، وكيف كان لهم أن يحملوا ويرفعوا أعلاما وشعارات موحدة ويجتمعوا في أماكن بذاتها.

يسلم المهتمون بملف الحساسية الكردية/التركية في القارة الأوروبية بجذر التنابذ والمواجهة السياسية المستعرة بين تركيا والحركات القومية الكردية

على الأغلب، تملك السلطات في الدول الأوروبية إجابة على مستويين مختلفين: الأول متعلق بتنظيم "الذئاب الرمادية" التركية، الناشطة على شكل شبكات من التنظيمات والجمعيات المدنية، مختلفة الأسماء والتوجهات، والتي يُعتقد أنها مرتبطة بأحزاب سياسية وأجهزة الدولة العميقة في تركيا، إذ تشير تقارير إلى ارتباطها بحزب "العدالة والتنمية" والحركة القومية المتطرفة. والآخر متعلق بحزب العمال الكردستاني ونشاطاته واستطالاته السياسية والمدنية والثقافية في هذه البلدان نفسها.

وبحسب التقارير التي رفعتها أجهزة استخبارات هذه الدول خلال السنوات الماضية، تمكن "حزب العمال الكردستاني" من تجاوز كل العقبات التي وضعت أمام كبح تنظيماته طوال سنوات، وتضاعف أعضائه المنظمين والفاعلين في ألمانيا وحدها من 7000 كادر منظم عام 1993 إلى 14000 كادر عام 2014، وإلى قرابة 23000 ألف كادر راهنا، أغلبهم يحملون الجنسية الألمانية، وينشطون في شبكة كبيرة من مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية والاتحادات الثقافية والمهنية، يمارسون بشكل غير مباشرة نشاطات التنظيم السياسي والمؤازرة والتحشيد الشعبي وجمع التبرعات ورسم السياسات لمئات الآلاف من مناصريهم الأكراد في ألمانيا. ومثلهم تنظيمات مشابهة في البلدان الأخرى.

أ.ف.ب
أشخاص يحملون علم حزب العمال الكردستاني (PKK) ويلوحون بأعلام تحمل صور الأشخاص الأكراد الستة الذين قتلوا في حادث بباريس

الجمعية القومية التركية العابرة للحدود، وهي وإن كانت تأخذ تسميات وصفات مختلفة بغرض التملص من الرقابة الأمنية والمتابعة القضائية، فإن السلطات الأمنية الأوروبية تعرف الصلات التنظيمية العنقودية التي تجمع فيما بينها، المرتبطة بتنظيمات "الذئاب الرمادية" القومية المتطرفة، ومركزها الأساسي في العاصمة التركية أنقرة.

عقب حظر مختلف جهات هذا التنظيم في الدول الأوروبية، في النمسا عام 2018 وفرنسا عام 2020، فإن تسريبات إعلامية قالت إن تعداد أعضائه الفاعلين يتجاوز ثلاثين ألف شخص، موزعين على شكل وحدات مستقلة في المدن والبلدات الأوروبية، تضم كل وحدة 100 إلى 200 عضو معبئين أيديولوجياً ومدربين لوجستياً لأداء ما يُطلب منهم. بدأ تنظيمهم بالنشاط المكثف منذ أوائل الستينات من القرن المنصرم، عقب الانقلاب العسكري الأول في تركيا، بقيادة الجنرال جمال غورسيل، وصارت مهمة هذا التنظيم ملاحقة المعارضين اليساريين الأتراك في الأوساط العمالية التركية في أوربا، ومنذ أواسط الثمانينات صاروا يلاحقون ويكشفون نشاطات أعضاء "حزب العمال الكردستاني" في المكان نفسه.

أبعد من توترات الشرق الأوسط

يسلم المهتمون بملف الحساسية الكردية/التركية في القارة الأوروبية بجذر التنابذ والمواجهة السياسية المستعرة بين تركيا والحركات القومية الكردية في منطقة الشرق كأساس أولي ودائم لهذا الصراع في أوروبا. يستندون في ذلك إلى الهدوء النسبي التام الذي ساد علاقة الطرفين خلال سنوات 2011-2015، حينما هدأت المواجهة المسلحة بين تركيا و"العمال الكردستاني"، ودخل الطرفان في عملية سلام مطولة خلال تلك السنوات. لكنهم يضيفون عوامل أخرى حدثت داخل المجتمعات والسياسات الأوروبية، صارت تعمل خلال السنوات الماضية كفواعل "محلية" تُسعر من هذا الصراع، بحيث إن الكثير منها صار يندلع بين أبناء الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين، كما يشرح الباحث المختص بشؤون اللاجئين آراس فائق في حديث مع "المجلة".

يسرد فائق سلسلة التحولات بين الجماعتين العرقيتين في الفضاء الأوروبي قائلا: "خلال العقد الأخير على الأقل، ومن خلال متابعة السلوك الانتخابي للأجيال الجديدة من المهاجرين الأتراك، لاحظ المراقبون بروز نزوع واضح من قِبلهم نحو اليمينين القومي والديني. فما يحصل عليه حزب "العدالة والتنمية" وحليفه القومي المتطرف من نسبة أصوات الناخبين في البلدان الأوروبية، خصوصا في بلدان المركز الأوروبي، تفوق ما يحصل عليه الحزبان نسبيا داخل تركيا نفسها. هذا التحول مخالف بالأساس لما سارت عليه الجالية التركية في أوروبا طوال العقود الثلاث الأخيرة من القرن المنصرم، حيث كان المهاجرون الأتراك أكثر ليبرالية وأقل تعصبا وتماهيا مع السياسات والخطابات القومية للسلطة التركية، بما لا يقارن مع الأتراك المقيمين في تركيا، وعادة ما كانوا يعبرون عن سخطهم من السياسات القومية لتلك السلطات. نشأ هذا التحول نتيجة سوء الاندماج الثقافي وزيادة وتيرة الخطابات القومية عبر وسائل الإعلام الحديثة وزيادة مستويات تفاعلهم مع مجتمعاتهم المحلية بسبب الاتصالات الحديثة وعُقدة الاقتلاع الثقافي التي صاروا يعانون منها. فانعكس كل ذلك على شكل توتر هوياتي قومي مستبطن، عادة ما ينفجر في وجه نظرائهم الأكراد، المصنفين كأعداء وظيفيين جاهزين، تبعا للدعاية المركزية للسلطة وأجهزة الإعلام التركية".

تبدلت القراءة السياسية الأوروبية للهوية والحضور السياسي الكردي في السنوات الأخيرة 

لكن فائق يضيف عاملا آخر يتعلق بالسياسات الأوروبية نفسها، مضيفا: "خلال الفترة نفسها، تبدلت القراءة السياسية الأوروبية للهوية والحضور السياسي الكردي نفسه. فعدد من الأجهزة القضائية الأوروبية أعادت تعريف (العمال الكردستاني) من حزب إرهابي إلى تنظيم جُرمي، وصارت الأحزاب اليسارية والبيئية وجمعيات حقوق الإنسان والنُخب الثقافية الأوروبية تضغط بوضوح على البرلمانات والحكومات الأوروبية بشأن ملف حقوق الإنسان في تركيا وممارساتها بحق الأكراد، وتطالب أن تكون الاستجابة السياسية والثقافية التركية بشأن مواطنيها الأكراد شرطا أوليا ودائما لتحسين العلاقة معها. زاد الأمر إيجابية خلال السنوات العشر الماضية، حينما غدت الحكومات والمجتمعات الأوروبية تراكم اعترافا وعرفانا للأكراد بسبب دورهم في مواجهة التنظيمات المتطرفة في المنطقة، وصلت حد تقديم كميات ضخمة من الأسلحة والمعدات العسكرية إليهم في كل من سوريا والعراق. كل ذلك شكل في الضمير الجماعي للأتراك المقيمين في أوربا إحساسا بخيبة الأمل من الدول الأوروبية، ودافعا للاعتقاد بوجود سياسة أوروبية عامة تستهدف أحياء القومية الكردية بغية تفكيك الدولة التركية، وإن بشكل ناعم وبعيد المدى".

على أن عاملا جوهريا طرأ على المجتمعات الكردية نفسها داخل المجتمعات الأوروبية خلال السنوات نفسها. فالشتات الكردي حتى أوائل الألفية كان بالأساس مؤلفا من عشرات الآلاف من أعضاء الطبقة العمالية الأكثر فقرا وهامشية وبعدا عن إمكانية الانتظام والتحشيد والتطلع إلى تحقيق هدف سياسي ما. لكنهم خلال العقدين الماضيين تحولوا إلى مجتمعات متوزعة على كامل الطيف الاجتماعي والطبقي، عشرات الآلاف من أجيالهم الجديدة يمتهنون أعمالا حديثة، على مستوى تعليمي عالٍ، وينخرطون في شبكات إنتاج ثقافي ومهني متآزرة فيما بينها، يملكون صلات لغوية واقتصادية ورمزية أكثر حيوية مع بلدان المنطقة، خصوصا مع العالم العربي، ويتمركزون حول هويتهم ومطالبهم القومية، ويوالون بإحكام لعدد صغير من الأحزاب والتيارات السياسية، التي تفرز لهم سياقات انتظامهم العام، تصنع لهم المُثل العليا وتجسد لهم رأس الهرم ومنظومة القيم.

خلق ذلك لديهم شعورا عاليا بالجدارة وإمكانية تحقيق شيء ما لمسألتهم السياسية/القومية الرئيسة، عبر الانخراط الفعال في كل المناسبات وأشكال التعبير السياسية/القومية، والضغط الدؤوب على النُخب السياسية الأوروبية لمؤازرتهم. وهو ما يدفعهم للقابلية للانتظام والتحشد تجاه كل ما قد يمسهم، خصوصا من قِبل نظرائهم الأتراك.    

font change

مقالات ذات صلة