اشتهرت بين المشغولين بالفلسفة مقولة فيلسوف التنوير إيمانويل كانط حين قال إنه سوف يستبعد شيئا من المعرفة من أجل ترك مساحة للإيمان. هذه الدعوى أصبحت من المسلمات عند كثيرين وطاروا بها كل مطير وأثنوا كل الثناء على الفيلسوف المؤمن الذي جمع بين العلم والإيمان. واقعا، هم لا يلامون فهذا ما صرّح به كانط بنفسه ولم ينسبه إليه أحد رغم أنفه. لكننا نعتقد أن هذا التسليم يحتاج إلى مراجعة وتصحيح، فنتائج فلسفة كانط يشير إلى نتائج أخرى. الفلسفة تقول غير ما يقول الفيلسوف.
لقد وجد كانط أن العقل النظري لا يترك هذه المساحة فاستعاد الإيمان من خلال العقل العملي. لكن، هل كان صادقا حقا في دعواه تلك؟ ما الفرق بين هذين العقلين؟ وهل ثمة عقلان أم العقل واحد؟ العقل العملي والعقل النظري وجهان لعملة واحدة هي العقل الذي نعرف، فكيف انقسم عنده على هذه الصورة؟ العقل النظري هو عالم العلم المجرد، والعقل العملي هو عالم المعيش، ومنه قد نرى أن كانط كان براغماتيا في المعرفة قبل أن يولد البراغماتيون.
بالنسبة إلى كانط، هناك عالمان، عالم الظواهر، هذا الذي يحيط بنا، أو هو هذا العالم المحسوس، وهذا العالم الظاهري تمكن معرفته ودراسته من خلال تحالف التجربة والعقل الذي يستقبل معطيات الحواس ويحللها من خلال القوالب الفكرية القبلية الموجودة أصالة في العقل الإنساني. أي أنه قد أوجد تعاونا مشتركا بين العقل والحواس بعد أن جعل القيادة بيد العقل. هذا ما يفصله عن الماديين الذين جعلوا الطبيعة هي الأصل والعقل مجرد مادة كأي شيء مادي آخر.
لا يظهر أن فيلسوف بروسيا قد حبس العقل لكي يفسح المجال للإيمان، فقد ألغى موضوعات الإيمان
وهناك عالم آخر، هو عالم الشيء في ذاته، وهو عالم لا يمكن للعقل الإنساني أن يعرفه مهما حاول. يقولون إن فيلسوف بروسيا بهذا التفريق قد استعاد الإيمان بالله والروح والحرية من خلال هذا التقسيم وإنها من ضمن الأشياء في ذاتها، أي التي لا يمكن أن تُعرف لكن يجوز الإيمان بها كنوع من المصادرة، من أجل قيام الأخلاق.
قد يبدو أنه قد انتقص من قيمة العقل، بناء على ما صرح به، لأنه في نهاية المشوار قد حبس إمكانيات العقل الإنساني على استكشاف هذا العالم الظاهري، وهذا معناه الذي لا معنى سواه، أننا لن نعرف شيئا على وجه اليقين، إلا ما يكون من هذا العالم الظاهري، أو بعبارة أخرى، المعرفة الإنسانية هي معرفة بالظواهر فقط. هو بهذا، بلا شك، قد رفض الدور الذي أناطته الفلسفات قبله بالعقل، فقد كانوا يثبتون قضايا ميتافيزيقية عن طريق العقل، بينما يرى هو من خلال ما أسماه "نقائض العقل" أن كل هذه القضايا الميتافيزيقية هي فوق مستوى العقل، وأن اتباع العقل فيها لن يوصل إلى إثبات ولا نفي. مجرد جدل بيزنطي لا ينتهي إلى شيء.
الذي أوصلنا إلى فهم ما يقول حقا هو تساؤلنا المباشر: هل عالم الشيء في ذاته واقعي بالنسبة إليه؟ يبدو لي أن الإجابة ستكون بالنفي. وفي واقع الحال، لا يبدو أن كانط قد فسح مجالا للإيمان لأن عالم الشيء في ذاته التي تحدث عنه كثيرا، عندما تدقق في كلامه، لا يبدو عالما موضوعيا واقعيا يعتقد هو بوجوده منفصلا عن العقل والأخلاق. الشيء في ذاته ليس سوى نهاية عالمنا هذا، عالم الظواهر. وبالتالي لم يترك جوهرا واقعيا يمكن الإيمان به. الشيء في ذاته عند كانط، هذا المصطلح المشهور، لا يبدو أكثر من حد معرفي أو منطقي. وهكذا، مع هذا التأويل لمعنى الشيء في ذاته، لا يظهر أن فيلسوف بروسيا قد حبس العقل لكي يفسح المجال للإيمان، فقد ألغى موضوعات الإيمان. ما الذي بقي له، أو ما هو الإيمان الذي فسح المجال له؟ إنه الإيمان الأخلاقي وهو حتما ليس الإيمان اللاهوتي الذي تدعو إليه الكنيسة. ولذلك لم يرض القساوسة المعاصرون له بذلك الإيمان وغضبوا منه غضبا شديدا فصنفوه عدوّا للمسيحية، ومنهم من أسمى كلبه "كانط" من باب الخصومة والازدراء.