جنون أسعار "الذهب البني" يؤرق مصنعي الشوكولاته

الكاكاو سجل ارتفاعات قياسية والفاتورة إلى 63 مليار دولار

نيكولا فيرانسيس
نيكولا فيرانسيس
نيكولا فيرانسيس

جنون أسعار "الذهب البني" يؤرق مصنعي الشوكولاته

شهدت بورصة أسعار الكاكاو ارتفاعا كبيرا في الآونة الأخيرة، وتهافت عشاق الشوكولاته على شرائها وتخزينها، مما انعكس على صناعتها وتصديرها وتجارتها في العالم. ودخلت "أسهم" الكاكاو وأسعارها المنافسة مع أسعار الذهب والنفط، مما شكَّل علامة فارقة في الأسواق العالمية والتبادلات التجارية.

فالإرتفاع الكبير لأسعار الكاكاو التي سجلت في أبريل/نيسان 2024، وفاقت الـ400 في المئة، أيقظ الأسواق على أهمية الإستثمار في "الذهب البني"، وهو ارتفاع قياسي في تاريخ تجارة الكاكاو من جهة، وفي التداول العالمي للسلع من جهة أخرى.

ساهم التضافر السلبي للعوامل المناخية المستجدة، مع سوء إدارة الأزمات الزراعية التي تعاني منها غالبية الدول المنتجة للكاكاو، في نقص المواد من الأسواق، وأربك المزارعين في تنفيذ عقود التصدير، مما دفع بأسعاره إلى تحقيق هذا الصعود التاريخي.

توقعت المنظمة الدولية للكاكاو أن ينخفض إنتاجه العالمي بنسبة 10,9 في المئة، ليصل إلى 4,45 ملايين طن متري هذا الموسم

تُعتبر زراعة شجرة الكاكاو استثمارا طويل الأمد، وهي مصدر دخل قومي لدول عدة، وتتركز زراعتها في الدول القارية الصالحة تربةً ومناخاً لمثل هذه الزراعات. فما يزيد قليلاً عن نصف الإنتاج العالمي للكاكاو، كان يأتي قبل الأزمة الحالية من حقول وغابات ساحل العاج، مع إنتاج سنوي يقدر بـنحو 2,2 مليون طن، ومعها غانا بإنتاج يصل إلى 1,1 مليون طن، من أصل 6,5 ملايين طن تنتج عالمياً، أما حصة الدول العربية منها فصفر لعدم ملاءمة المناخ والتربة لزراعة هذه الشجرة.

تتركز غالبية الإنتاج غرب القارة الأفريقية بنسبة 60 في المئة، وتمتد ليصل إلى البرازيل (274 ألف طن سنوياً) وجمهورية الدومينيكان (72 ألف طن سنوياً) في الأميركيتين الجنوبية والشمالية.

ديانا استيفانيا روبيو

الإرتفاع الجنوني أخيرا، في أسعار الكاكاو عالمياً الذي انتقل من 2823 دولاراً للطن في أبريل/نيسان 2023 ليصل إلى 9773 دولارا للطن الواحد في أبريل/نيسان 2024، رفع فاتورة الإستهلاك العالمي للكاكاو إلى 63 مليار دولار، في مقابل 18 مليار في السنوات المنصرمة. ومع إضافة تكلفة تصنيع الشوكولاته، وأعباء النقل والتسويق وغيره، تقترب فاتورة استهلاك الشوكولاته عالمياً إلى نحو 120 مليار دولار سنوياً، حصة السوق الأوروبية منها النصف تقريباً، بينما لا توجد إحصاءات دقيقة لمجموع استهلاك العالم العربي، بيد أن دول مجلس التعاون الخليجي تعتبر وجهة أساسية لمصدري الشوكولاته ذات العلامات التجارية العالمية المرتفعة الثمن.

مصنعو الشوكولاته يتقشفون

يؤرق كابوس ارتفاع اسعار الكاكاو مصنعي الشوكولاته  في العالم، وهم مدركون أنه لن ينتهي قريبا بدليل استمرار تعثر إنتاج الكاكاو في غرب أفريقيا على خلفية عوامل المناخ، الأمر الذي دفع المصنعين الكبار إلى حيل وحلول يمكن أن تخفض التكلفة، على نحو لا يهدد ارتفاع أسعار مبيعاتهم ومصير شركاتهم.

رويترز

وتوقعت المنظمة الدولية للكاكاو أن ينخفض إنتاجه العالمي بنسبة 10,9 في المئة، ليصل إلى 4,45 ملايين طن متري هذا الموسم، علما أن السوق الدولية لم تشهد عجزا  في 4 سنوات متتالية منذ أواخر ستينات القرن الماضي، وفق بيانات المنظمة.

تتجه سوق الكاكاو نحو عجز يراوح بين 300 ألف و500 ألف طن في عام 2024

ويؤكد سيرج كردي، مدير مصنع الشوكولاته والتنمية الإقليمية في "باتشي" اللبناني، أن "أسعار الكاكاو ارتفعت عالميا هذه السنة بشكل جنوني حتى وصلت نسبة الارتفاع إلى معدل 405 في المئة للطن الواحد من الكاكاو". وتعود نسبة الارتفاع في رأيه الى أسباب عدة، أهمها أن محصول الكاكاو هذه الفترة كان مخيّبا للآمال، ويرجع ذلك إلى الأمراض والحشرات التي أصابت المحاصيل، والتي يتطلب علاجها في كثير من الأحيان اقتلاع الأشجار المريضة وزراعة بدائل منها، إضافة إلى الأمطار الغزيرة التي شهدتها المنطقة.

خسارة الأراضي الزراعية بسبب التعدين

من جهة أخرى، يشير سيرج كردي الى "أن المردود المالي الضعيف المحدد من قبل دول زراعة الكاكاو في مقابل العمالة الكبيرة، أدى إلى اختيار العديد من المزارعين اللجوء إلى زراعات أو مهن أخرى مربحة أكثر. كما زاد التعدين غير القانوني في مناطق غرب أفريقيا بشكل كبير، بسبب الأراضي الغنية بالمعادن مثل الذهب واليورانيوم وخام الحديد والألماس وغيرها. وقد أدى ذلك إلى خسارة هائلة في الأراضي الصالحة للزراعة، بسبب إزالة الغابات. كل هذا مجتمعاً تسبب بأكبر نقص في الكاكاو منذ أكثر من ستة عقود. وتتجه سوق الكاكاو في العالم نحو عجز يراوح بين 300 ألف و500 ألف طن في عام 2024".

رويترز
عاملة متخصصة في صناعة الشوكولاتة الإيفوارية تعمل في أحد المصانع في أبيدجان، ساحل العاج 10 مايو 2024

إذا، أدى انخفاض كمية الكاكاو المنتجة عالميا إلى ازدياد الطلب عليه بسبب تخوّف المستوردين من عدم توفّر الكميات المطلوبة، مما أدى بالتالي إلى المساهمة في ارتفاع الأسعار، بغض النظر عن مسببات سياسية أخرى أثرت أيضا على الأسعار في العالم.

وإذ شهد العالم ثلاث سنوات متتالية من نقص الكاكاو، في وقت يتوقع المحللون أن يستمر هذا الضعف موسماً رابعاً في ساحل العاج وغانا بسبب استمرار الأسباب المذكورة أعلاه، يأمل سيرج كردي أن تشجع هذه الأسعار المرتفعة أيضا على إعادة زراعة الملايين من أشجار الكاكاو القديمة، وصون الأشجار الحالية بشكل أفضل، فثمة حاجة ماسة إلى هذه الأسعار المرتفعة لتخفيف الطلب والوصول إلى التوازن. ولكن في نهاية المطاف، ستعمل قوى السوق على إعادة التوازن إلى السوق.

يعتبر ساحل العاج ملك الكاكاو إذ إن انتاجه يمثل نحو ثلث الإنتاج العالمي الإجمالي، تليه غانا

أكثر الدول إنتاجا للكاكاو هما ساحل العاج وغانا في غرب أفريقيا. ويعتبر ساحل العاج تحديدا ملك الكاكاو، إذ إن انتاجه يمثل نحو ثلث الإنتاج العالمي الإجمالي. أما لبنان والدول العربية (السعودية تحديدا") فتستورد من موردين في أوروبا، يقومون بدورهم باستيراد الكاكاو من البلدين المذكورين سابقا".

أمام الارتفاع غير المسبوق لأسعار الكاكاو، لجأ العديد من المصنعين إلى حلول عدة من بينها زيادة أسعار منتجاتهم، أو تقليل حجمها مع الحفاظ على السعر كما هو. ولجأ البعض إلى تقليل مكونات الكاكاو في منتجاته.

ما هي الدول العربية الاكثر استيرادا للشوكولاته واستهلاكا لها؟ تعتبر مصر واحدة من أكبر مستوردي الشوكولاته  في العالم العربي. وتواجه طلبا كبيرا على منتجات الشوكولاته، مع وجود عدد كبير من السكان وطبقة متوسطة متنامية. وشهدت سوق الشوكولاته المستوردة في البلاد توسعا مطردا في السنوات الأخيرة، مما يجعلها وجهة جذابة لمصدّري الشوكولاته. بالإضافة إلى ذلك، يؤكد سيرج كردي أن دولا عربية، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات، تعتبر من الأسواق الكبيرة في استيراد الشوكولاته نظرا لإمكانات سكانها المادية المرتفعة وارتفاع الطلب على السلع الفاخرة، يتبعها لبنان وبقية الدول العربية.

التزام شروط الاتحاد الأوروبي سيزيد تكلفة إنتاج الكاكاو، وصناعة الشوكولاته، وستدفع الضوابط الجديدة إلى شح في الأسواق، وتضخم الأسعار

ويرجح في حال استمر ارتفاع أسعار الكاكاو والشوكولاته المصنعة إلى مستويات قياسية، أن تتعزز سوق الحلويات العربية والأجنبية البديلة، التي تحتوي على بودرة الكاكاو مما يجعلها أقل تكلفة.

استغلال الفلاح الأفريقي

طعم الشوكولاته الرائع الذي يحفز هرمون السعادة لدى الإنسان، لا يخلو من جانب مظلم في مراحل إنتاجه، وتحديدا حيث موطن الكاكاو الأصلي في غرب أفريقيا. فلطالما وسِمت زراعة الكاكاو بعار تلوثها بالعبودية، لما شاب تاريخها من محطات ظلم مؤلمة وموجعة، واستخدام غير إنساني للفلاحين، وإستغلال غير عادل لأراضيهم، ومصادرة إنتاجهم أو شراءه بأبخس الأثمان. فما قاله يوما علي دياباتي، وهو أحد العاملين الأفارقة بالسخرة لسنوات طويلة، إنه "ينبغي لمتذوقي حلاوة الشوكولاته عند أكلها، ألا ينسوا أنهم يأكلون من لحمي ويتلذذون بأوجاعي ويسمنون من جوعي"، لهو حقيقة مرة تختصر بعض تاريخ زراعة الكاكاو التي تنتج ثروات بطعم الاستعباد.

رويترز
عامل يعرض حبوب الكاكاو في مصنع Chocovi للشوكولاتة التابع لفيفان كوامي، صانع الشوكلاتة في أبيدجان، ساحل العاج، 10 مايو 2024

التمادي في انتهاك القوانين الدولية، وحقوق العاملين في مزارع الكاكاو، واستغلال عمالة الأطفال والنساء، وكذلك بيع الأطفال لأصحاب المزارع في مقابل 34 دولارا للطفل الواحد في غانا، تقابلها أرباح خيالية للشركات تصل الى 100 مليار دولار سنويا. وهذا ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى وضع قانون يدخل حيز التنفيذ أواخر عام 2024، يهدف إلى وقف نزف الغابات والمساحات الخضراء في الدول المنتجة، وضمان احترام الإنسانية، ومنع عمالة الأطفال في المزارع منعاً باتاً، والتزام القوانين الدولية. وهو بهذا، وجه إنذاراً شديد اللهجة، إلى شركات صناعة الشوكولاته ومصدِّري الكاكاو إلى أوروبا، يطلب بموجبه منهم إثباتاً واضحاً بأن الكاكاو المستورد مصدره مزارع تجارية خاصة، ولم يأتِ من غابات مصنفة محميات طبيعية عالمية، أو تمَّ استغلال عمالة الأطفال في إنتاجه. علما أن منظمة العمل الدولية تقدر عدد العاملين الأطفال في صناعة الكاكاو بأكثر من مليوني طفل وخصوصا في غانا وساحل العاج.

ويعتقد بعض الخبراء أن مفاعيل هذا القانون قد تكون، إلى جانب العوامل المناخية، أحد أسباب جنون الأسعار، حيث سيزيد التزام شروط الاتحاد الأوروبي تكلفة إنتاج الكاكاو، وصناعة الشوكولاته، وستدفع الضوابط الجديدة إلى شح "الذهب البني" في الأسواق، مما سيؤدي أكثر فأكثر بصناعة الشوكولاته للوقوع في شرك تضخم الأسعار.

font change

مقالات ذات صلة