بول أوستر سينمائيا... سحر المصادفة

خمسة أفلام تدور في فلك عوالمه الروائية

AP
AP
الكاتب الأمريكي بول أوستر

بول أوستر سينمائيا... سحر المصادفة

راود حلم الإخراج السينمائي الكاتب الأميركي بول أوستر الذي فارق عالمنا قبل أيام قليلة، منذ بدايته كروائي، وطالما أجّل الشروع في هذه المغامرة بسبب خجله وتردده، ومع ذلك لم يتخلّ عن هذه الرغبة الملحاحة، كيف لا وهو يمتلك معرفة بصرية ثرية، فضلا عن صداقاته الحميمة مع العديد من المخرجين السينمائيين، خاصة الأقرب إليه فيم فندرز.

قارئ بول أوستر يدرك ثراء المادة السينمائية التي تنهض عليها مجمل رواياته ذات المنحى الأسود، بوليسية دون أن تكون كذلك، على نحو مبتكر لا علاقة له بالتقاليد البوليسية الكلاسيكية، إذ تتحقق في لعبتها معظم الشروط الفنية والحكائية المحرّضة على العمل السينمائي: الحبكة الماكرة، الاشتباكات الإنسانية المحتكمة إلى شرارة المصادفة في الغالب، مناخ الغموض ملؤه المفاجآت المدوية، والتحريات الحاذقة المتأرجحة بين خيط الحيرة الجارفة وخيط المتعة المتواترة، فضلا عن الدعابة السوداء وفرط صدمة العبث... بل إن موضوع روايته "كتاب الأوهام" مفرد للعبة السينما، شخوصا ووقائع وأفلاما.

في المحصلة كل ما تحتاج إليه أعمال بول أوستر الروائية هو كتابة سيناريو ذكية، خبيرة وألمعية.

 تتحقق في لعبة أوستر معظم الشروط الفنية والحكائية المحرّضة على العمل السينمائي

موسيقى المصادفة

هذا ما حاول أن يكيفه هو نفسه، بعدما شارك في كتابة سيناريو روايته، "موسيقى المصادفة"، الصادرة عام 1990 إلى جانب المنتجة بيلندا هاس زوجة المخرج فيليب هاس الذي أخرج الفيلم عام 1993 وقد عرض في مهرجان "كان" السينمائي.

يحمل ناش في طريقه إلى نيويورك جاك. إثر حوارهما يكتشف ناش أن جاك لاعب ورق محترف، فيدعوه إلى مقامرة كبرى، في منزل ثريين. يخسران في المقامرة كل ما يملكه ناش من ثروة، فيستدين من الثريين عساه يتدارك بفوز في جولة دون جدوى، وكمقابل للدين يطلب منهما صاحبا المنزل الفخم أن يشيدا سورا ضخما من عشرة آلاف حجر في حديقة القصر، وهو حجر جلباه في الأصل من بناية كنيسة تاريخية، وعلى هذا النحو تبدأ مأساة ناش وجاك المجبرين على سداد الدين بعقاب مبين كهذا. يقتل جاك بعد محاولته الهروب من قدرية هذا العقاب، فيما يفلت ناش ويتحرر أخيرا لكن بعد أن يقتل الحارس وابنه، قائدا السيارة بجنون. بالطريقة ذاتها التي يبدأ الفيلم حينما يتوقف ناش بسيارته كي يقل جاك على الطريق، يلوح ناش في نهاية الفيلم وقد توقفت له سيارة يعرض صاحبها عليه أن يحمله هو الآخر.

دخان

مثلما ترتهن عوالم بول أوستر إلى المصادفة في مجمل نصوصه الروائية، ساقته المصادفة نفسها هذه المرة من خلال قصة قصيرة -كتبها تحت الطلب بعنوان "قصة عيد ميلاد أوجي رين" 1990 لصالح الصفحة الأخيرة في صحيفة "نيويورك تايمز"- إلى مشروع فيلم سينمائي ثان، باقتراح من المخرج وين وانغ، ولم يكتف بكتابة سيناريو القصة المشار إليها آنفا بل شارك في الإخراج أيضا، إنها أول تجربة إخراجية سيقدم عليها كأنما فيلم "موسيقى المصادفة" السابق حرضه وحمّسه على ذلك. لم يكتف بكتابة السيناريو إذن، وساهم في إخراج فيلم "دخان" 1995 بمعية وانغ.

تدور مجمل وقائع فيلم "دخان" في متجر للتبغ يديره أوجي المولع بالتصوير الفوتوغرافي، هذا الذي يتعرف بالمصادفة الى زبونه المميز، الكاتب بول بنجامين (استعارة لاسم بول أوستر ذاته) الذي دمره موت زوجته، معرفة نشأت بسبب تدخين نوعية السجائر نفسها، يوغل بها الكاتب في حكايات التاريخ الكبرى بأن يسرد (حكاية والتر رالي، الذي نجح في تقديم التبغ إلى بلاط إليزابيث الأولى)، وكأن خيط الدخان هو الذي يحبك اشتباكات الحكايات إذ يتعرف الكاتب بول بنجامين الى الشاب الزنجي رشيد التائه، حينما أنقذه هذا الأخير من شاحنة على أهبة أن تدهسه بينما كان شاردا في أفكاره، وكبادرة امتنان يدعوه الكاتب بول بنجامين ليقيم في بيته، ثم سرعان ما يطرده بسبب الإزعاج، فتظهر عمة الزنجي رشيد كاشفة عن أبيه المجهول الذي يدير محطة وقود واسمه سايروس، يعود رشيد الأسود البشرة إلى شقة الكاتب لكنه يختفي من جديد بسبب المبلغ المالي المشبوه الذي يحمله معه، 5000 دولار، وقد أخذه من لصوص وفق ما أخبر به الكاتب ولم يقنعه، ثم يتعقب الكاتب بول بنجامين والمصور الفوتوغرافي أوجي حكاية رشيد المريبة إلى أن يكتشفا والده سايروس ويصالحان بينهما، بعدها يساهم رشيد في إدارة المتجر، وبسبب إهماله تفسد بضاعة السيجار الكوبي التي أنفق أوجي في سبيلها كل ما يملك، 5000 دولار، في المقابل يفاجئ رشيد صاحب المتجر أوجي بأن يمنحه المبلغ... وأما أوجي فيفاجئ الكاتب بول بنجامين بقصته مع والده كمشروع لرواية مفقودة استأثرت بإعجابه.

هكذا يرسم الفيلم حياة بروكلين عبر متجر يقع عند مفترق طرق، فبفضل التبغ أو الدخان بالأحرى نكتشف خرائطها من خلال علاقات إنسانية وقصصية تحكم المصادفة نسق تقاطع مصائرها الغريب، وقد حاز سيناريو الفيلم جائزة مهرجان "إندبندنت سبيريت" للأفلام المستقلة.

إنهاك

يعود بول أوستر في السنة ذاتها 1995 بفيلم "إنهاك" Blue in the Face ككاتب سيناريو ومشارك في الإخراج بمعية وين وانغ دائما، وهو محض تكملة لفيلم "دخان" بالنظر إلى أن حوادثه تدور هي الأخرى في المتجر نفسه، مع التركيز على بعض شخصياته السابقة ورصد حكايات طارئة تنشأ حول سرقة حقيبة أمام المتجر وغضب زوجة صاحب المتجر الذي لم يأخذها أبدا إلى لاس فيغاس والسيجارة الأخيرة التي يقرر أحد الزبائن تدخينها في الوقت الذي لا يذكر حكاية تدخين أول سيجارة ثم حدث إبلاغ أوجي من طرف مالك المتجر ببيع الدكان بسبب الإفلاس مقترحا فتح مطعم نباتي بديل ليتدخل لاعب بيسبول قديم ويحول دون بيعه، وهكذا دواليك في منحى ارتجالي وكوميدي. صُوّر فيلم "إنهاك" في خمسة أيام، كحاشية تضيء فراغات فيلم "دخان" وتضيف اليها.

يرصد "الحياة الداخلية لمارتن فروست" مناخ الكتابة الشاق، وما يحفل به من مفارقات واقعية وخيالية

لولو على الجسر

ما راكمه بول أوستر من خبرة ميدانية في التجربتين السابقتين مع المخرج وين وانغ، منحه الثقة في أن يغامر وحده في إخراج فيلم مستقل بعد سنتين، بعنوان "لولو على الجسر" 1997، ويبدأ الفيلم بمشهد الرصاصة الطائشة التي تصيب إيزي ماور، عازف جاز وهو يعزف الساكسفون على رصيف المسرح من قبل رجل مختل، يفقد إثرها رئته اليسرى مما سينهي حياته الموسيقية. تنعطف الحكاية حين يتعرف الى الممثلة الشهيرة كاثرين مور في حفلة عشاء بدعوة من صديقته السابقة هانا، يتضح أن كاثرين مور تحولت إلى مخرجة سينمائية تبحث عن ممثلة شابة كي تلعب دور لولو في فيلم "صندوق باندورا". في تلك الليلة يصادف إيزي ماور في طريق العودة إلى البيت جثة رجل مع حقيبة، حينما يفحص الحقيبة يعثر على حجر تدمغه علامة حمراء، ما أن لامسه شع منه ضوء أزرق مع إصدار أصوات غرائبية، ويقرر صباح اليوم التالي الاتصال بالرقم المكتوب في المنديل المرافق للحجر فيتعرف إلى الحسناء سيليا، هذه التي ستلعب دور لولو في فيلم "صندوق باندورا". بدل أن يلتقي  الحسناء سيليا في دبلن أثناء تصوير الفيلم كما خطط، سيتعرض إلى هجوم في شقته من طرف رجال يختطفونه والسبب استنطاقه حول مقتل ستانلي مار...

تلقي سيليا بالحجر السحري في النهر بعدما خاب أملها في لقاء إيزي ماور ومعرفة مكانه، بل تقفز مرة أخرى في النهر حينما يطاردها الرجال أنفسهم في حين يهرب إيزي ماور من مكان احتجازه وينهار  لاختفاء الحسناء سيليا... ينتهي الفيلم من حيث بدأ بحادثة إطلاق الرصاصة على إيزي ماور على رصيف المسرح، فتحمله سيارة الإسعاف، وفي الطريق إلى المستشفى يلفظ أنفاسه، بينما تلوح سيليا وقد لمحت سيارة الإسعاف فترسم علامة الصليب.

مارتن فروست

أعلن بول أوستر في حوار صحافي قرار توقفه النهائي عن الإخراج السينمائي، لكن سرعان ما قفل عائدا مرة أخرى إلى المغامرة السينمائية، وبمفرده أيضا، إذ سيختم مسيرته الإخراجية بفيلم "الحياة الداخلية لمارتن فروست" 2007، الذي اقتبسه من روايته "كتاب الأوهام":

 بعد العمل لمدة ثلاث سنوات على رواية وإصدارها، يستعير مارتن فروست منزلا ريفيا فارغا لأحد الأصدقاء كي يرتاح من تعب العمل الآنف. ومع ذلك، ما إن يصل حتى تتبادر إلى ذهنه فكرة كتابة قصة حاول أن يبدأها على آلة كاتبة. عندما يستيقظ في صباح اليوم التالي، متوقد الحماسة لاستئناف كتابته الجديدة، يفاجأ بوجود امرأة شابة نائمة بجواره في السرير، تدعى كلير مارتن، وتزعم أنها ابنة أخت صاحب المنزل. تتشابك محاوراتهما الفلسفية والشعرية المولعة بالكتب فيكتشفها قارئة رهيبة بل مطلعة على مجمل ما كتب، مستدرجة إياه إلى لعبة الحب.

 كلير مارتن الغامضة ستغدو سؤالا فلسفيا صادما ومؤرقا حينما يتضح أن لها علاقة سحرية بما يكتبه مارتن فروست، وذلك عندما تمرض حد الموت فيقرر إحراق قصته لكي يعيدها إلى الحياة.

هل هي ملهمة أم شبح أم من نسج خياله؟ ذلك هو اللغز الشائك الذي حيّر مارتن فروست حينما تختفي كلير فجأة، فيتعرف الى السمكري جيم فورتوناتو الذي يصادف أنه كاتب قصص قصيرة أيضا، هذا الذي يطلب من مارتن فروست أن يقرأ ثلاثة من أعماله القصصية بغية الاستنارة بملاحظاته الذكية ككاتب محترف، ثم يظهر السمكري في المنزل الريفي رفقة ابنة أخته اليتيمة آنا جيمس التي تلعب دورها ابنة الكاتب بول أوستر نفسه (صوفي أوستر)، ولأنها موهوبة في الغناء يسمح لها مارتن فروست بالبقاء مقابل خدمات منزلية. تلتقي آنا جيمس بالمرأة الغامضة كلير مارتن مختبئة في غرفة النوم... في نهاية الفيلم يلوح مارتن فروست في السيارة معصوب العينين، فتطلب منه كلير مارتن إنزال العصبة ليراها في مرآة السيارة الأمامية ويمضيان معا إلى المطار.

فيلم "الحياة الداخلية لمارتن فروست" يرصد مناخ الكتابة الشاق، وما يحفل به من مفارقات واقعية وخيالية، حقيقية وحلمية، شعرية وفلسفية، يومية وفانتازية... إزاء العلاقة الوجودية بين الكاتب وتخييل نصه من جهة أولى، وبين الكاتب والمرأة الملهمة، سواء كانت صنيعا موهوما من بدائع خياله وشطحات هذيانه، أو كانت حقيقة صارخة جادت بها غرائب المصادفات في مجرى المصائر المتقاطعة بصخب وجنون من جهة ثانية.

هي خمس تجارب نوعية تألق بها منجز بول أوستر السينمائي، أولا ككاتب سيناريو لفيلم "موسيقى المصادفة" 1993 من إخراج فيليب هاس، وثانيا وثالثا ككاتب سيناريو ومشارك في إخراج فيلمين متتالين، "دخان" 1995 و"إنهاك" 1995 بمعية وين وانغ، ثم رابعا وخامسا كمخرج مستقل لفيلمين مفردين، "لولو على الجسر" 1997 و"الحياة الداخلية لمارتن فروست" 2007.

font change


مقالات ذات صلة