لولو على الجسر
ما راكمه بول أوستر من خبرة ميدانية في التجربتين السابقتين مع المخرج وين وانغ، منحه الثقة في أن يغامر وحده في إخراج فيلم مستقل بعد سنتين، بعنوان "لولو على الجسر" 1997، ويبدأ الفيلم بمشهد الرصاصة الطائشة التي تصيب إيزي ماور، عازف جاز وهو يعزف الساكسفون على رصيف المسرح من قبل رجل مختل، يفقد إثرها رئته اليسرى مما سينهي حياته الموسيقية. تنعطف الحكاية حين يتعرف الى الممثلة الشهيرة كاثرين مور في حفلة عشاء بدعوة من صديقته السابقة هانا، يتضح أن كاثرين مور تحولت إلى مخرجة سينمائية تبحث عن ممثلة شابة كي تلعب دور لولو في فيلم "صندوق باندورا". في تلك الليلة يصادف إيزي ماور في طريق العودة إلى البيت جثة رجل مع حقيبة، حينما يفحص الحقيبة يعثر على حجر تدمغه علامة حمراء، ما أن لامسه شع منه ضوء أزرق مع إصدار أصوات غرائبية، ويقرر صباح اليوم التالي الاتصال بالرقم المكتوب في المنديل المرافق للحجر فيتعرف إلى الحسناء سيليا، هذه التي ستلعب دور لولو في فيلم "صندوق باندورا". بدل أن يلتقي الحسناء سيليا في دبلن أثناء تصوير الفيلم كما خطط، سيتعرض إلى هجوم في شقته من طرف رجال يختطفونه والسبب استنطاقه حول مقتل ستانلي مار...
تلقي سيليا بالحجر السحري في النهر بعدما خاب أملها في لقاء إيزي ماور ومعرفة مكانه، بل تقفز مرة أخرى في النهر حينما يطاردها الرجال أنفسهم في حين يهرب إيزي ماور من مكان احتجازه وينهار لاختفاء الحسناء سيليا... ينتهي الفيلم من حيث بدأ بحادثة إطلاق الرصاصة على إيزي ماور على رصيف المسرح، فتحمله سيارة الإسعاف، وفي الطريق إلى المستشفى يلفظ أنفاسه، بينما تلوح سيليا وقد لمحت سيارة الإسعاف فترسم علامة الصليب.
مارتن فروست
أعلن بول أوستر في حوار صحافي قرار توقفه النهائي عن الإخراج السينمائي، لكن سرعان ما قفل عائدا مرة أخرى إلى المغامرة السينمائية، وبمفرده أيضا، إذ سيختم مسيرته الإخراجية بفيلم "الحياة الداخلية لمارتن فروست" 2007، الذي اقتبسه من روايته "كتاب الأوهام":
بعد العمل لمدة ثلاث سنوات على رواية وإصدارها، يستعير مارتن فروست منزلا ريفيا فارغا لأحد الأصدقاء كي يرتاح من تعب العمل الآنف. ومع ذلك، ما إن يصل حتى تتبادر إلى ذهنه فكرة كتابة قصة حاول أن يبدأها على آلة كاتبة. عندما يستيقظ في صباح اليوم التالي، متوقد الحماسة لاستئناف كتابته الجديدة، يفاجأ بوجود امرأة شابة نائمة بجواره في السرير، تدعى كلير مارتن، وتزعم أنها ابنة أخت صاحب المنزل. تتشابك محاوراتهما الفلسفية والشعرية المولعة بالكتب فيكتشفها قارئة رهيبة بل مطلعة على مجمل ما كتب، مستدرجة إياه إلى لعبة الحب.
كلير مارتن الغامضة ستغدو سؤالا فلسفيا صادما ومؤرقا حينما يتضح أن لها علاقة سحرية بما يكتبه مارتن فروست، وذلك عندما تمرض حد الموت فيقرر إحراق قصته لكي يعيدها إلى الحياة.
هل هي ملهمة أم شبح أم من نسج خياله؟ ذلك هو اللغز الشائك الذي حيّر مارتن فروست حينما تختفي كلير فجأة، فيتعرف الى السمكري جيم فورتوناتو الذي يصادف أنه كاتب قصص قصيرة أيضا، هذا الذي يطلب من مارتن فروست أن يقرأ ثلاثة من أعماله القصصية بغية الاستنارة بملاحظاته الذكية ككاتب محترف، ثم يظهر السمكري في المنزل الريفي رفقة ابنة أخته اليتيمة آنا جيمس التي تلعب دورها ابنة الكاتب بول أوستر نفسه (صوفي أوستر)، ولأنها موهوبة في الغناء يسمح لها مارتن فروست بالبقاء مقابل خدمات منزلية. تلتقي آنا جيمس بالمرأة الغامضة كلير مارتن مختبئة في غرفة النوم... في نهاية الفيلم يلوح مارتن فروست في السيارة معصوب العينين، فتطلب منه كلير مارتن إنزال العصبة ليراها في مرآة السيارة الأمامية ويمضيان معا إلى المطار.
فيلم "الحياة الداخلية لمارتن فروست" يرصد مناخ الكتابة الشاق، وما يحفل به من مفارقات واقعية وخيالية، حقيقية وحلمية، شعرية وفلسفية، يومية وفانتازية... إزاء العلاقة الوجودية بين الكاتب وتخييل نصه من جهة أولى، وبين الكاتب والمرأة الملهمة، سواء كانت صنيعا موهوما من بدائع خياله وشطحات هذيانه، أو كانت حقيقة صارخة جادت بها غرائب المصادفات في مجرى المصائر المتقاطعة بصخب وجنون من جهة ثانية.
هي خمس تجارب نوعية تألق بها منجز بول أوستر السينمائي، أولا ككاتب سيناريو لفيلم "موسيقى المصادفة" 1993 من إخراج فيليب هاس، وثانيا وثالثا ككاتب سيناريو ومشارك في إخراج فيلمين متتالين، "دخان" 1995 و"إنهاك" 1995 بمعية وين وانغ، ثم رابعا وخامسا كمخرج مستقل لفيلمين مفردين، "لولو على الجسر" 1997 و"الحياة الداخلية لمارتن فروست" 2007.