إحدى مفارقات الخطاب المناهض للتحركات الطلابية في الولايات المتحدة الأميركية والعالم، أنه ينتقل بسهولة من تقليل شأن هذه التحرّكات، التي لن توقف الحرب ولن تغيّر الموقف الإسرائيلي ولا الأوروبي ولا الأميركي، إلى فعل العكس تماما، أي تضخيمها إلى حدّ زعم أنها صمّمت لخطف الأضواء من حرب غزة.
بالطبع، منطلق ذلك، ومعظم المواقف المناهضة للتحركات الشعبية، بما فيها مقاطعة الشركات والمؤسسات الداعمة لإسرائيل والتظاهرات والإضرابات وغيرها، هو الخشية من أنها تصبّ في نهاية المطاف في خدمة "حماس"، فهي، وعلى غرار الخطاب اليميني الغربي الراسخ حول هذه الحرب برمتها، تكرّر خطاب "حماس" وتكرّسه، وهذا كما يعلم كلّ من هو على قرب منها ومتابع لمنطلقاتها وحججها، أبعد ما يكون عن الحقيقة. ولعلك تجد بعضهم يحتجّ بصورة رفعت هنا، أو شعار رفع هناك، لتعميم الحكم المعمّم سلفا على جميع المشاركين في تلك التحركات. وفي حين يمكن، على سبيل المثل، فهم أن تعتبر بعض الأصوات اليمينية كلمة "انتفاضة" معادية للسامية، وهذا أبعد من أن يكون مجرد سوء تفاهم لغوي/ ثقافي، فإن بعضا آخر لا يتوانى عن شجب تلك التحركات لمجرد صدحها بشعار "الحرية لفلسطين" أو "أوقفوا المذبحة" أو "قاطعوا إسرائيل" إلخ.
المطلوب، بالنسبة إلى هذه الأصوات، ووفق هذا المنطق، ألا يحرّك العالم ساكنا. فلا تظاهرات يجب أن تخرج إلى الشارع، ولا طلاب يجب ان يطالبوا بأن تقطع جامعاتهم علاقاتها مع المؤسسات الإسرائيلية، وفي نهاية المطاف فإن أصحاب هذا المنطق لا يرون بأسا في قمع هذه الأشكال الاحتجاجية، لأنها موضع ريبة، وكما تعاقب إسرائيل جماعيا جميع سكان غزة، بل جميع الفلسطينيين على السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، فإنه تجب معاقبة كلّ صوت محتجّ على المذابح الإسرائيلية في غزة، وقد ذهب بعض المشرّعين والقضاة الأميركيين إلى إعلان هذه العقوبات التي من شأنها القضاء على مستقبل آلاف الطلبة، ناهيك عن التعامل الوحشي لأجهزة الشرطة في الولايات المتحدة وفي أكثر من بلد أوروبي.
بعض تلك الأصوات لا يتوانى عن شجب تلك التحركات لمجرد صدحها بشعار "الحرية لفلسطين" أو "أوقفوا المذبحة" أو "قاطعوا إسرائيل"
على المستوى البسيط والمباشر، فإن الانزعاج من هذه التحركات يعكس شيئا من جرح الكبرياء لدى أصحابه. فهم في الغالب "النخب"، وبوصفها نخبا فإنها تضع نفسها في موقع الحكم الأخلاقي والسياسي الأول. وبالتالي، لا بدّ من أن ثمة مؤامرة ما، إيرانية أو إسلاموية، تقف وراء كلّ تلك التحركات، ولا بدّ من أنها تسيء إلى القضية الفلسطينية بدلا من أن تخدمها، ولا بدّ من أن أولئك الشباب هم مجرد جهلة غرّر بهم وخدعوا بالدعاية المضللة للوقوف في المعسكر الخاطئ.
لكنّ المسألة تتجاوز ذلك بالطبع. إنها مسألة عجز تلك النخب عن استيعاب أنها لم تعد نخبا في المقام الأول، وأنها لم تعد تمثّل خطابا أخلاقيا متفوقا أو متعاليا، تماما مثل الحكومات والمؤسسات السياسية الغربية، وأنها بعجزها عن رؤية الكارثة الإنسانية في غزة والاعتراف بها، وباحتكامها فقط إلى معايير المعادلات السياسية واشتراطات "الواقعية السياسية"، لم تعد قادرة على تقديم أيّ خطاب يتجاوز الشعاراتية والبلاغات الكلامية السهلة والسائغة و"المطلوبة". هذه النخب عاجزة إلى درجة أنها باتت ترى أن إدانة إسرائيل قد تكون انتصارا لـ"حماس" ولجماعات ما يسمى بـ"الممانعة"، وبالتالي لإيران التي تقف خلفها، وهي بذلك تقف، من حيث تعرف أو لا تعرف، وتعترف أو لا تعترف، على أرضية أخلاقية واحدة مع تلك الحركات التي تتهمها بأنها لا تقيم وزنا لحياة البشر أمام المعادلات السياسية.
بالتأكيد، هذه التحرّكات لن تغيّر اتجاهات الحرب في غزة، ولن تثني نتنياهو وحكومته عن المضي قدما في جرائمهم ضدّ الفلسطينيين تحت ذريعة "القضاء على حماس" و"تحرير الرهائن" (هدفان أبعد ما يكونان عن الواقع بعد سبعة أشهر من الحرب)، وبالتالي ليس علينا سوى أن نتخيّل، وفق أصحاب الخطاب الآنف الذكر، سوى شوارع هادئة، ومنصات تواصل اجتماعي أليفة، وطلاب لا يتسببون بإزعاج أحد، حتى يكون كلّ شيء على ما يرام. سنكتفي بالقول إن إسرائيل بالغت في ردّ فعلها (حتى لا نقول إنها ترتكب جرائم حرب أو إبادة)، لكنّ من أطلق هذا الوحش من القمقم هي "حماس"، وبالتالي فالإدانة تقع عليها أولا وأخيرا.
سوف نرى بعض عتاة مناهضي حكم بشار الأسد في سوريا، يتبنّون بكل أريحية هذا الخطاب المريح، لأنهم ببساطة لا يريدون أن تقع أيّ كلمة قد يقولونها، أو أيّ موقف جاد قد يتخذونه من إسرائيل، في حضن إيران التي يكنّون لها العداء الأكبر. يجب القول إن هذا ليس إلا أحد النجاحات الكبرى التي حققها بشار الأسد (ومعه إيران، وربما روسيا) على مناهضيه. لقد حوّلهم إلى مجرّد آلات أيديولوجية، فاقدة للمعايير الأخلاقية التي يفترض أن ثورتهم ضدّه تأسست عليها.
يرنّ صوت رفعت العرعير في التجمعات والتظاهرات ليطلق الطلاب من خلاله صرخة يبدو أن العالم لم يسمعها بعد: أوقفوا القتل، أوقفوا المذبحة، أوقفوا الاحتلال
لهذا السبب، يغضب هؤلاء من التظاهرات والاحتجاجات، وخصوصا الطالبية منها. إنهم لا ينظرون إلى العالم إلا من تلك الزاوية الضيقة للمعارك التي خسروها ولا يزالون يرفضون الاعتراف بأنهم خسروها. المتظاهرون والمحتجون، بحسب هؤلاء، هم "فلسطينيون" أو "عرب" أو "مهاجرون" أو "مسلمون" أو "متأسلمون" إلخ، إنهم كلّ شيء إلا ما هم عليه حقا، بغالبيتهم العظمى، مجرّد شباب يرون أن المؤسسات السياسية العالمية تمضي في الاتجاه الخطأ، وتقضي على المبادئ الديمقراطية، وتدمّر الكوكب، لصالح حفنة من الشركات ورجال الأعمال، وتهدّد مستقبلهم المهني والإنساني.
خطاب المنفعة والواقعية السياسية، لم يستطع حجب آلاف الصور ومقاطع الفيديو المتدفقة من غزة، ليس خلال هذه الحرب ولا قبلها، ولا استطاع حجب حقيقة أن هناك احتلالا جاثما على صدور الفلسطينيين منذ نحو ثمانية عقود، ولا حقيقة أن هناك 25 ألف طفل وامرأة على الأقل ذبحوا حتى اليوم (إذا استثنينا الرجال وكبار السن)، وآلافا غيرهم دمّر مستقبلهم وبترت أطرافهم ويتّموا، ومئات الآلاف فقدوا مساكنهم وجامعاتهم ومستشفياتهم. هؤلاء الشباب لا يرون، على سبيل المثل، في الشاعر والمربّي رفعت العرعير الذي قتله الإسرائيليون في غزة، رمزا إسلاميا، ولا "حمساويا" ولا إيرانيا، ويعرفون أن لا صلة له بذلك كله. هم يرون فيه شاعرا تجسّد في مقتله الظالم، اضطهاد بمستويات تاريخية لا يقيم وزنا لحياة الفلسطينيين، بل يعتبرهم أقلّ إنسانية من أن يقام لهم وزن. لذلك يرنّ صوت رفعت العرعير في التجمعات والتظاهرات ليطلق الطلاب من خلاله صرخة يبدو أن العالم لم يسمعها بعد: أوقفوا القتل، أوقفوا المذبحة، أوقفوا الاحتلال.