هل يمكن هزيمة "حماس"؟

"الرصاص يستطيع هزيمة الأفكار"

ناش ويراسيكيرا
ناش ويراسيكيرا

هل يمكن هزيمة "حماس"؟

واشنطن- يستخلص البعض من هجوم "حماس" في 7 أكتوبر/تشرين الأول والحرب المدمرة التي شنتها إسرائيل ردا على ذلك، أن القضاء على "حماس" ليس ممكنا. والسبب أنه لا يمكن هزيمة الأيديولوجيات عسكريا. كما أن ثمة من يجادل في أن القوة العسكرية– على العكس– تهدد بنشوء جيل جديد من الفلسطينيين تربى على التطرف، وخاصة في غزة، مما قد يؤدي فعليا إلى تضخم صفوف "حماس" بعناصر جديدة.

كلتا الحجتين خاطئة. ففي حين أن القوة العسكرية قد لا تقضي على أيديولوجيا ما بشكل كامل، فإنها يمكن أن تقوض بشكل كبير قدراتها العملياتية، مما يجعل هذه الأيديولوجيا أقل أهمية. ومن جانبها، فإن الحجة الأخرى القائلة بأن العمل العسكري ضد جماعات مثل "حماس" يؤدي إلى التطرف، وبالتالي تجنيد وتعزيز هذه الجماعات، كثيرا ما تقلل من أهمية الفاعلية البشرية وتتجاهل قدرة الأفراد والمجتمعات على اتخاذ الخيارات والتصرف بشكل مستقل عن الضغوط الخارجية أو أعمال العنف. وتميل وجهة النظر هذه إلى تجاهل الحالات التاريخية التي أدى فيها الصراع المسلح إلى نتائج إيجابية على المدى الطويل.

الرصاص لا يستطيع هزيمة الأفكار؟

قد تبدو عبارة "الرصاص لا يمكنه هزيمة الأفكار" مقنعة، ولكنها شديدة التبسيط. فالأيديولوجيات، بما في ذلك أيديولوجيا "حماس"، غالبا ما تتمتع بالمرونة ونادرا ما تختفي تماما. على سبيل المثال، رغم الهزيمة العسكرية وفقدان المصداقية الأخلاقية، فإن أيديولوجيات النازيين وتنظيمي "القاعدة" و"داعش" لم تنطفئ بالكامل. هناك دائما عناصر تتشبث بهذه الأيديولوجيات، وقد تنشأ ظروف يمكن أن تسهل ظهورها من جديد. وعلى نحو مماثل، صمدت حركات مثل "الإخوان المسلمين" في وجه الجهود المتكررة لاستئصالها. إن أولئك الذين يرفضون العمليات العسكرية ضد "حماس" على أساس أن هذه الأساليب لا يمكنها القضاء على الجماعة بالكامل، يطبقون معيارا غير واقعي للنجاح.

ولكن هذا لا يعني أن مثل هذه الأيديولوجيات والمنظمات- بما في ذلك "حماس"- لا يمكن هزيمتها بالقدر الكافي إلى الحد الذي يحولها من تهديدات كبرى إلى مجرد مصدر إزعاج هامشي ــ وإن تكن خطيرة أحيانا ومن الممكن أن تسبب خسائر بشرية مأساوية. كما أن ما يجعل "حماس" وأمثالها من التنظيمات المسلحة فعالة ليس فقط- أو حتى في المقام الأول– أيديولوجيتها، فهي ليست فريدة من نوعها، بل في قدرتها على تفعيل هذه الأيديولوجيا من خلال العنف المستمر.

كل المحاولات الرامية إلى تحويل سياسة "حماس" أو دفعها للاعتدال أو تهميشها باستخدام الحوافز السياسية أو الاقتصادية باءت بالفشل على نحو مستمر

لقد نجحت "حماس" في بناء قوتها السياسية بشكل أساسي من خلال قدرتها على ممارسة العنف بشكل مستمر. وحتى خلال التسعينات، عندما كانت في أدنى شعبيتها، أدى استخدامها الاستراتيجي للعنف إلى تعطيل ما كان آنذاك نهجا سلميا يحظى بتأييد واسع النطاق لتحرير الفلسطينيين، ووضْعِ نفسها كبديل سياسي. ومنذ ذلك الحين، ظل العنف يمثل الاستراتيجية الأساسية لـ"حماس".
فكل المحاولات الرامية إلى تحويل سياسة "حماس" أو دفعها للاعتدال أو تهميشها باستخدام الحوافز السياسية أو الاقتصادية باءت بالفشل على نحو مستمر، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى أنه ومن منظور "حماس"، فإن استخدامها للعنف أدى فعليا إلى تحقيق أهدافها، بدءا من تخريب عملية السلام إلى السيطرة على غزة عام 2007. وتثبت أحداث 7 أكتوبر المزيد من الأدلة على ذلك. وأنه طالما احتفظت "حماس" بقدراتها العسكرية، فإنها ستظل قوة كبيرة قادرة على التأثير على النتائج السياسية. ولمواجهة "حماس" بفعالية، فإن تجريدها من قدرتها على ارتكاب العنف يشكل خطوة أولى أساسية، الأمر الذي يستلزم استخدام القوة.

الحرب تزود "حماس" بالموجة التالية من المجندين

لا شك أن التوجه العسكري تترتب عليه تكاليف سياسية باهظة. فالتجاوزات التي شهدتها إسرائيل في إدارتها للحرب، والقيود المفروضة على وصول المساعدات الإنسانية، ستترك بصمة لا تمحى، وسيلقي سكان غزة الذين عايشوا الحرب مباشرة، ومعهم الفلسطينيون الذين رأوا المعاناة التي حلت بمواطنيهم والعرب الذين رأوا الدمار الذي نزل بأبناء جلدتهم، باللوم على إسرائيل لسنوات عديدة. سيحدث هذا بغض النظر عن المبررات التي قد تقدمها إسرائيل، حتى وإن يكن بعضها معقولا كتلك التي تتعلق بتعقيد حرب المدن ضد عدو مثل "حماس" الذي لا يأخذ حياة شعبه في الاعتبار. وبغض النظر عن مدى مشروعية الهدف الإسرائيلي المتمثل في ضمان أن لا تتمكن "حماس" أبدا من تكرار الفظائع التي ارتكبت في 7 أكتوبر.

شترستوك
عناصر من كتائب "عز الدين القسام"، الجناح المسلح لـ"حركة حماس"، خلال دورية في خان يونس، جنوب قطاع غزة، 26 يناير 2020

إن أية أوهام مفادها أن المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي قادران على الثقة بعضهما في بعض أو حتى التوصل إلى مستوى معقول من التعايش في أي وقت قريب لا بد وأن تتبدد، فمثل هذه النتيجة- إذا أمكن التوصل إليها- هي في أفضل الأحوال مسعى جيلي. وهذا لا يعني أنه لا يمكن التوصل إلى حل الدولتين في نهاية المطاف، لكنه سيكون حلا قائما على الانفصال وليس التعاون.

مع مرور الوقت، تميل الذكريات المؤلمة الناجمة عن صراعات مثل حرب غزة إلى التلاشي وتتحول إلى أفكار مجردة، وكثيرا ما ينسى الجيل الذي يليه الدروس التي تعلمها جيل ما

ولكن من الصحيح أيضا، بغض النظر عن المشاعر التي قد يشعر بها أهل غزة والفلسطينيون والعرب تجاه إسرائيل، فإن أحدا لن يرحب بتكرار هذه المأساة مستقبلا. إن "حماس"، التي كانت مسؤولة عن إثارة هذه المأساة والتي لا تزال تصر على أنها ستفعل ذلك مرة أخرى إذا أتيحت لها الفرصة، ستجد صعوبة بالغة في حشد التأييد، وخاصة بين سكان غزة الذين عانوا بشدة بسبب قرارها. ولا ريب في أن عمق الصدمة التي يعيشها قطاع غزة سوف يحدد هوية هذا الجيل، الذي لن يرحب في غالبيته العظمى بتكرارها.

المسألة كلها مسألة وقت

كثيرا ما يُقال إن العمل العسكري يفشل في تحقيق نتائج دائمة أو مستدامة، وهي الفكرة التي ظلت قائمة على مستوى العالم منذ الحرب العالمية الثانية. فمع مرور الوقت، تميل الذكريات المؤلمة الناجمة عن صراعات مثل حرب غزة إلى التلاشي وتتحول إلى أفكار مجردة، وكثيرا ما ينسى الجيل الذي يليه الدروس التي تعلمها جيل ما. ومع ذلك، فإن الافتقار إلى الدوام لا يقتصر على عواقب العمل العسكري، فهناك عدد قليل للغاية من الأشياء الدائمة- إن وجدت. وإذا جرى الحكم على السياسات على أساس ديمومتها، فإن عددا قليلا للغاية من السياسات- إن وجدت- قد يجتاز اختبار الزمن.
ومع ذلك، فإن هزيمة "حماس" عسكريا يمكن أن تضمن شيئا حاسما: الوقت. وهذا ليس بلأمر اليسير فللوقت أهمية قصوى، فهو ضروري لتنفيذ أي إصلاح سياسي أو اقتصادي أو مدني مهم. والسؤال الحاسم لا يتعلق فقط بضرورة التدخل العسكري، بل أيضا بكيفية استغلال الوقت الذي يوفره.

شترستوك
مقاتلون من كتائب "عز الدين القسام" خلال عرض عسكري في خان يونس، جنوب قطاع غزة

وهنا يقدم التاريخ نموذجين. أحدهما- وهو ما يُسمع كثيرا في مناقشات اليوم- يشير إلى حالات مثل العراق أو مراحل مختلفة من الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، حيث أدت الحرب إلى التطرف والمزيد من الاضطرابات. غير أن هناك نموذج آخر، تجلى في دول مثل ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام ورواندا، يظهر أنه من الممكن تجاوز الصراعات وصياغة مستقبل مستقر ومزدهر. في حين أن هذه الأمثلة لا تخلو من العيوب ولا يوجد قياس تاريخي مثالي، إلا أن هناك قواسم مشتركة أساسية داخل كل نموذج.
في السيناريو الأول، غالبا ما يتبع الصراع سياسات سيئة تؤدي إلى زيادة المعاناة والاختلال الوظيفي، كما لوحظ في أعقاب حرب العراق، حيث أدى عدم الاستقرار والفساد وفراغ الحكم إلى تسهيل التطرف، وخاصة بين الشباب الذين لم تعد لديهم ذكريات عن الحياة في ظل الأنظمة السابقة.

في الحالة الفلسطينية، سيكون هناك دائما من يدعم "حماس" أو ما يشبهها أيديولوجياً

ولكن في السيناريو الثاني، نشأت بدائل إيجابية سمحت للأمل بأن يحل محل الغضب. ومع تحول التركيز الوطني نحو إعادة البناء والأهداف الموجهة نحو المستقبل، تصبح مظالم الماضي أقل أهمية، رغم أنها لا تختفي تماما. وفي هذه الحالات، ورغم استمرار الأيديولوجيات والمظالم القديمة، فإنها لا تكون قادرة على تحديد مستقبل هذه الدول.

المضي ما بعد "حماس"

في الحالة الفلسطينية، سيكون هناك دائما من يدعم "حماس" أو ما يشبهها أيديولوجياً. الإسلاميون هم سمة من سمات السياسة العربية. وما على المرء إلا أن يعتبر من تلك الدول العربية جميعها التي أمضت القرن الماضي وهي تحاول استئصال جماعة "الإخوان المسلمين". كما أن المتطرفين العنيفين موجودون في كل مجتمع، الأمر الذي يتطلب العمل الدائم أمنيا واستخباراتيا، وفي الحالات القصوى، اللجوء إلى الأساليب العسكرية. ومن هذا المنظور فإن الإجابة على السؤال حول ما إذا كان من الممكن القضاء على "حماس" بشكل كامل هي: "لا".

رويترز
جندي إسرائيلي أثناء تفقده نفقا في غزة

إلا أن الهدف الذي يمكن تحقيقه يتمثل في تحويل "حماس" إلى ظاهرة هامشية قادرة فقط على ممارسة العنف بين الحين والآخر، ولكنها غير قادرة على تغيير المشهد السياسي والأمني. غير أن مجرد كون مثل هذا الهدف قابلا للتحقيق، لا يعني أنه سهل لأنه يتطلب خلق بديل مقنع وذي مصداقية.
إن إنشاء مثل هذا البديل له ثلاثة مكونات مترابطة. أولها أنه لا بد من اتخاذ إجراءات أمنية مستمرة حتى بعد انتهاء الحرب لضمان عدم قدرة "حماس" على إعادة تشكيل نفسها. ولكي نكون واضحين، فإن "حماس" لا تحتاج إلى العودة إلى قوتها قبل الحرب. وكل ما تحتاجه هو إعادة بناء القدرة الكافية لإفساد جهود ما بعد الحرب. 
ثانيها، ضرورة أن تتبع الأعمال العدائية المسلحة فورا جهودا كبيرة للتعافي وإعادة الإعمار. إن الحزن والغضب لن يختفيا، ولكن التغيير الحقيقي والملموس في الواقع يمكن أن يكون بمثابة إشارة إلى سكان غزة بأنهم يستطيعون البدء في لملمة شتات حياتهم. 
ثالثها، حاجة السلطة الفلسطينية إلى إعادة تنشيطها. فما دامت أغلبيه الفلسطينيين تعتبر السلطة الفلسطينية غير شرعية، فسوف تتمكن "حماس" من تقديم نفسها باعتبارها البديل الوحيد القابل للتطبيق. إن تنشيط السلطة الفلسطينية يتطلب أمرين: أولا، معالجة قضايا الفساد وسوء الإدارة، فما دامت الأغلبية من الفلسطينيين ترى في قادتها لصوصا غير فعالين، فلن يكتسبوا المصداقية اللازمة لمواجهة "حماس". ولكن على القدر نفسه من الأهمية، فإن الفرضية الأساسية للسلطة الفلسطينية- فكرة أن الدبلوماسية قادرة على تحقيق نتائج للفلسطينيين- تحتاج إلى إعادة تأهيل. وفي حين أن تحقيق الدولة الفلسطينية في الوقت الحالي ليس خيارا واقعيا، فإن السلطة الفلسطينية تحتاج إلى أن تكون قادرة على أن تثبت لشعبها أن طريقها هو وضعهم على الطريق نحو الاستقلال.
إن تنفيذ التدابير السياسية والدبلوماسية والإدارية والاقتصادية اللازمة لمواجهة "حماس" ينطوي على نهج معقد ومتعدد الأوجه يتطلب اتخاذ قرارات وإجراءات مهمة من جانب السلطة الفلسطينية وإسرائيل والدول العربية والمجتمع الدولي. وهذه المهمة شاقة بطبيعتها، ومليئة بالمخاطر، وتتضمن احتمال الفشل. ولكن، من دون تحييد "حماس" عسكريا، ومن دون التقليل من قدراتها العسكرية، فإن هذه الاستراتيجيات الأوسع لمعالجة القضايا السياسية والاقتصادية الأساسية لن تكون مجدية. ودون هذه الخطوة، تصبح المهمة الصعبة بالفعل مستحيلة.

font change

مقالات ذات صلة