أتت تصريحات خليل الحية، القيادي في "حماس"، مفاجئة للبعض، لتناقضها مع خطاب قادة تلك الحركة في بداية العملية الهجومية، التي شنتها على مستوطنات وبلدات إسرائيل في غلاف غزة (7/10/2023)، وبالأخص منها خطاب محمد الضيف القائد العام لـ"كتائب القسام" الذي أعلن فيه عملية "طوفان الأقصى" وطبيعتها، كيوم "وعد" لهزيمة إسرائيل، والتي طالب فيها الفلسطينيين، من النهر إلى البحر، والأمتين العربية والإسلامية بالمشاركة في المعركة بكافة الوسائل، بقوله: "هذا يومكم لتفهِموا هذا العدو المجرم أنه انتهى زمنه. (واقتلوهم حيث ثقفتموهم، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم)... قاتلوا، والملائكة سيقاتلون معكم... وسيوفي الله بوعده لكم". (راجع مقالتي في "المجلة": "حماس" و"طوفان الأقصى" بين روايتين- 22/1/2024).
في الحقيقة، تلك التصريحات لا تنطوي على مفاجأة، ليس لأن تلك الحركة أصدرت بيانا توضيحيا، مرنا، أو تراجعيا، أو تصحيحيا، في يناير/كانون الثاني الماضي، ثم عاد "الضيف" وكرر خطابه الأول، في رسالة مسجلة (28/3/2024)، جاء فيها: "يا أبناء الوطن العربي والإسلامي، ابدأو بالزحف اليوم، الآن وليس غدا، نحو فلسطين ولا تجعلوا حدودا ولا أنظمة ولا قيودا تحرمكم شرف الجهاد والمشاركة في تحرير المسجد الاقصى"، إذ ليس ثمة مفاجأة في تصريحات الحية لأن ذلك النهج، أي قول شيء اليوم ثم قول شيء آخر في يوم آخر، أو قول الشيء ونقيضه، هو جزء من النهج الذي سارت عليه مجمل الفصائل الفلسطينية، منذ انطلاقتها في أواسط الستينات، لحركة وطنية، تنطوي على روح برغماتية عالية، وتفتقد لاستراتيجية سياسية وكفاحية واضحة وممكنة ومسؤولة، ولا تولي أهمية لوثائقها وخطاباتها، بقدر ما تولي أهمية لشعبويتها، وللنأي بذاتها عن تبعات المراجعة والمساءلة والنقد.
لماذا وصلت "حماس" متأخرة- وبكل تلك الكلفة الباهظة، وبعد تلك النكبة المهولة- إلى حيث كانت "فتح" قد وصلت قبل ثلاثين عاما؟
في تصريحاته تلك، تحدث الحية عن قضايا على غاية في الأهمية، بنوع من الخفة والسذاجة، والتشاطر، في الوقت نفسه، كأنه يؤسس لـ"حماس" جديدة، وكأن تلك الحركة ليس لها تاريخ، أو كأنه يتوخى تقديم حركة جاهزة للتكيف مع الأطراف الفاعلين الدوليين والإقليميين والعرب، بعد كل ما جرى، سيما بعد انقسام فلسطيني مكلف، وبعد حصار وحروب إسرائيلية، استهلكت واستنزفت الفلسطينيين وحركتهم الوطنية، بخاصة في غزة، طوال 17 عاما، وبعد نكبة فلسطينية أقسى وأكثر هولا من أية نكبة سبقتها.
ما الذي قاله الحية؟
قال الحية إن حركته "مستعدة لهدنة مع إسرائيل مدتها 5 سنوات أو أكثر… ومستعدة لإلقاء السلاح والتحول إلى حزب سياسي، إذا تم إنشاء دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967… وإن (حماس) تريد الانضمام إلى منظمة التحرير…". وكل واحدة من تلك القضايا، تستحق وقفة خاصة، لأنها تطال الهدف الذي يعتقد أنه الأنسب للفلسطينيين في ظروفهم، وأشكال الكفاح المناسبة لأوضاعهم، كما تطال طبيعة الكيان السياسي الجامع للفلسطينيين.
بيد أن السؤال على كل واحدة من تلك القضايا: إذن، لماذا وصلت "حماس" متأخرة- وبكل تلك الكلفة الباهظة، وبعد تلك النكبة المهولة- إلى حيث كانت "فتح" قد وصلت قبل ثلاثين عاما؟ ومن المسؤول عن ذلك؟
أيضا، في تصريحاته تلك، قال الحية إن حركته "غير نادمة على هجمات معركة طوفان الأقصى على الرغم من الدمار الذي لحق بقطاع غزة… العملية نجحت في تحقيق هدفها المتمثل في إعادة اهتمام العالم بالقضية الفلسطينية"، مقاتلو "كتائب القسام" لم يستهدفوا "المدنيين في الهجوم"... قوات الاحتلال الإسرائيلي "لم تدمر أكثر من 20 في المئة من قدرات (حماس) سواء البشرية أو الميدانية"... "كان هدفنا في السابع من أكتوبر/تشرين الأول عملية محدودة، نرجع بعدد من الجنود الأسرى لنبادلهم بأسرانا، لكن فرقة غزة في الجيش الصهيوني انهارت تماما".
عملية "حماس" نجحت، لكن تلك العملية استمرت لساعات فقط، بيد أن المولود أتى ميتا، بل وتسبب في نكبة غزة
وفي الواقع، فإن تلك التصريحات تفتقد للمسؤولية تماما، ومنفصمة عن الواقع، كأنه يريد أن يقول إن نكبة غزة تلك أمر عادي، أو إن العوائد أكبر وأهم منها، وهذا غير صحيح البتة. ثم إن المغالطة في الحديث عن هدف العملية، مثل المغالطة في أن "حماس" فوجئت بانهيار فرقة غزة في الجيش الإسرائيلي، لا تنطلي على أي متابع، إذ إن هدف "طوفان الأقصى" كان محمد الضيف قد حدده في خطابه الشهير (يوم 7/10)، وكل خطابات قادة الحركة كانت تتحدث عن تبييض السجون ورفع الحصار وإعادة بناء قواعد اشتباك جديدة لهزيمة أو لردع إسرائيل على الأقل، ضمن مفهوم "وحدة الساحات"، من دون أي تهيئة للفلسطينيين في غزة، ثم هي تراجعت عن ذلك، لذا فإن الشعب الفلسطيني، سيما في غزة، يستحق منها اعتذارا. كما لا يضير "حماس" تقديم نقد ذاتي عن مغامرتها تلك، وهو ما فعله حسن نصر الله، باعتذاره للبنانيين في مقابلة تلفزيونية عن حرب 2006.
طبعا عملية "حماس" نجحت، لكن تلك العملية استمرت لساعات فقط، بيد أن المولود أتى ميتا، بل وتسبب في نكبة غزة، في عمرانها وفي حياة مليوني فلسطيني، ولا أعرف كيف يقيّم "الحية" في تصريحاته بين حفاظ "حماس" على 80 في المئة من قدراتها، بالقياس مع انهيار مجتمع الفلسطينيين في غزة، فهل باتت "حماس" أهم من الشعب الفلسطيني مثلا؟ أو هل يمكن لحركة وطنية، سواء "حماس" أو "فتح" أو "الجبهة الشعبية"، أن تكون بخير إذا كان شعبها في نكبة مهولة، كالتي حصلت لفلسطينيي غزة؟
لكن المغالطة الأكبر في تلك التصريحات الترويج للاعتقاد بأن عودة الاهتمام الدولي بقضية الشعب الفلسطيني، وهو أساسا في الدول الغربية حيث المجتمع المدني وقيم الديمقراطية الليبرالية، أتى نتيجة "عملية طوفان الأقصى"، في حين أنه أتى لإدانة إسرائيل، ضد حرب الإبادة الوحشية التي تشنها ضد الفلسطينيين، وهذا لا يضير "حماس"، ولا يقلل من أهمية المقاومة، وكان ذلك قد حصل إبان الانتفاضة الشعبية الأولى (1987-1993) وإبان هبة الشيخ جراح (2021)، وأتى هذه الأيام انتصارا للضحية، وهو هنا الشعب الفلسطيني، ضد الفاشية العنصرية الإسرائيلية.