"ما ينقش العصفور في تمرة العذق"، هكذا قدم الشاعر الراحل الحاضر الأمير بدر بن عبد المحسن بن عبد العزيز آل سعود في ديوانه الأول، هويته إنسانا ومهندسا للمعنى الذي يتجاوز الكلمة، إلى شابة في مقتبل العمر، ليعرف من خلالها قصائده، رجلا يقف على النقيض من الصورة السائدة التي تذكِّر المرأة بأن "الشعر رجل" وبأن القصيدة رغم أنوثتها وجدت للرجل. نقش ديوانه الأول في وجداني، بل حفر ذاكرة ممتدة، ليست لرجل رحل أو لروح أشبه بسحابة عابرة، بل أيضا لخيط منسوج عميقا في نسيج أمتنا، حتى وجدتني أمام خبر رحيله أتصارع مع السؤال: أأقدم تعازيَّ إلى أحبته الكثر، أم إلى وطني، أم إلى شبابي وسنوات تكويني؟
إن الفراغ الناجم عن فقدان أمير وشاعر ترك بصمة لا تمحى في ثقافتنا وهويتنا، هو فراغ لا يمكن قياسه، بقدر ما لا يقاس تأثيره على ثقافتنا. لقد شكلت أشعاره مشاعرنا وأفكارنا وتعبيراتنا وطريقتنا في الحب، "أبعتذر عن كل شئ.. إلا الهوى"، وتقبله المسبق للموت "علمتني الشمس أرضى بالرحيل". وبينما نحزن على رحيله، تقفز صور من الوعي تبدد الحزن وتدعو إلى النظر إلى الإرث الذي خلفه، وحكمته في مواجهة الموت "ذي سنة رب الخلايق فرضها". وبتكريم ذكراه، نتعهد بالحفاظ على الإبداع حيا، وتكريمه، اعترافا بالتأثير العميق الذي أحدثه في حياتنا، "فالإنسان، الإنسان لا يحيا إلا وهو يموت" .
لقد أثار رحيله في داخلنا الكثير من المشاعر: الحزن والخسارة، وكذلك مشاعر الفخر كونه مثل النسيم اللطيف، بذر المعاني تحت رداء بداوته، "أنا بدوي ثوبي على المتن مشقوق، ومثل الجبال السمر صبري ثباتي". ستظل كلماته تهمس في آذاننا، لتذكرنا بأن نعتز بمسقط رأسنا وشعرنا وحنيننا، كما سماه ميلان كونديرا "اللحظة الحاضرة" لنكون نخيلا لا ينحني.
كما كان مدركا لمشاعر أبناء وطنه، تواقا لتنمية بلاده، ورفعة لغتها وهويتها، كان مدركا حقيقة موته، راضيا به
فكما كان مدركا لمشاعر أبناء وطنه، تواقا لتنمية بلاده، ورفعة لغتها وهويتها، كان مدركا حقيقة موته، راضيا به، وبدأ يرسم خطوط حياته وما بعد مماته بريشة لونها الفجر وقصيدة حبرها الحب، الحب الكامل لتراب أرضه وسمائها. فقد كان نضاله الهادئ الذي يشبهه، نضالا لترسيخ الثقافة السعودية من خلال فنه الشعري، الذي استمر ممسكا بالموروث ويفيض تجددا وحداثة. حين تمسكت روحه بالفن، كان يدرك أن الفن لا يتعلق دائما بالجماليات، وأن التعبير عن نظام جمالي كالشعر والرسم هو محدد ثقافي، وأن الفن وجد لأنه يمتلك سلطة، سلطة التغيير وإعادة رسم العلاقات بين البشر. وارتفع بالمرأة السعودية فزين ذاكرتها بفن أصيل ينصف مكانتها ويعترف بوجودها، وما احتفاؤه بوالدته وأخته واعترافه بأسبقيتهما عليه للشعر، سوى اعتراف يفيض عمقا ورؤية ثاقبة لمجتمع متوازن يبدأ من الكلمة والقصيدة والشعر وينتهي بتنمية عقول هذبها الشعر لتبني وتبدع وتبتكر.
أنتهي هنا لأقول للأمير بدر، أميرنا، رحمه الله، علمتنا الحب والارتقاء بإنسانيتنا، سنكرمك باستنشاق عبق أشعارك وحب وطننا الذي يرتفع يوما بعد يوم "فوق هام السحب".