يدرك العالم أننا أمام منعطف تاريخي جديد أسس له الذكاء الاصطناعي التوليدي، فالأمور بعده لن تكون كما من قبل، ونحن حاليا في مرحلة انتقالية للتمكن من استيعاب التغيرات الدراماتيكية المتلاحقة التي فرضت نفسها منذ 18 شهرا.
لم يكن “تشات جي. بي. تي” أول منتج لتقنية الذكاء الاصطناعي، وبالطبع ليس أهمها، لكن الجانب الثوري الذي قدمه في ميدان البحث وتوليد المحتوى على مختلف الصعد، متفوقا على ريادة محرك البحث، “غوغل”، الذي شكل ملاذا للإجابة عن كل تساؤلاتنا منذ ربع قرن، فتح الأبواب على مصاريعها أمام تحولات عظمى في الأولويات والرؤى الاستراتيجية التي لا يمكن أن تستند إلى معطيات جامدة بعد الآن.
زعزع الذكاء الاصطناعي التوليدي ركائز اقتصادية كانت تقوم عليها سياسات دول وشركات، وتشكل مركز قوتها وسيطرتها، لترزح تحت خطر التخلف عن الركب، إن لم تنجح في مواكبة هذه التحولات. بدأنا نشهد فورة مضاعفة لصناعة الرقائق الإلكترونية الميكروية أو أشباه الموصلات، المشغلة للذكاء الاصطناعي، لا سيما التوليدي، الذي يعتمد تطوره على تطور الرقائق نفسها وقدرتها الفائقة على حفظ البيانات ومعالجتها، وتحليلها ونقلها ومضاعفتها. فكم منا كان يعلم أن الأجهزة التي نستخدمها للعمل والتنقل والتواصل والترفيه، من السيارات والهواتف الذكية والأقمار الاصطناعية، إلى أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي والروبوتات الصناعية، فإلى مراكز البيانات والمسيرات والطائرات المقاتلة، كلها ترتكز على الرقائق الإلكترونية. بمعنى آخر، تعتبر هذه الرقائق كالوقود أو كالأوكسجين، الذين لا يمكن لأي عمل أن يتم إلا بتوفرهما.
كان الصراع محتدما أصلا بين الولايات المتحدة الأميركية والصين في شأن تايوان، تحديدا في ما يتعلق بإصرار الصين على بسط نفوذها على تايوان وتثبيت تبعيتها لها. السبب، “الشركة التايوانية المحدودة لتصنيع أشباه الموصلات” (TSMC)، الأضخم عالميا في صناعة الرقائق الالكترونية، والمنتجة لنحو 90 في المئة من الرقائق الأكثر تطورا في العالم، المستخدمة في الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية. فلا الصين ستتخلى عن مصدر النفوذ المستقبلي الأقوى لصالح الولايات المتحدة، ولا الأخيرة ستسمح للصين بإحكام قبضتها على المصنع الرئيس للرقائق لا سيما للشركات الأميركية الكبرى، المستخدمة هذه الرقائق في منتجاتها، مثل “أبل” و”كوالكوم“، أو المصممة لها، مثل “إنفيديا” و”إيه. أم. دي“. تؤثر هذه الشركات إيكال مهمة إنتاج الرقائق إلى الشركة التايوانية بدلا من صنعها بنفسها، مكتفية بتصميمها.