ما إن بدأ مؤتمر تكوين الفكر العربي في القاهرة، السبت الماضي، حتى ضجت الوسائط الاجتماعية ناقدة ومحذرة من هذه المؤسسة التي تبدأ أنشطتها بمجلس أمناء لهم مكانة مهمة في الحياة الفكرية العربية، وهم فراس السواح وإسلام البحيري ونائلة أبي نادر ويوسف زيدان وإبراهيم عيسى وألفة يوسف، وبمشاركة عدد من المشتغلين في مجال الفكر والفلسفة.
مرجع هذه التحذيرات التي أطلقها شيخ أزهري تعود إلى شهرة هذه الأسماء في طرح مواضيع جريئة لم يتعود عليها القارئ والمشاهد العربي، وهو ما بدا استحضارا لتجارب علي عبد الرازق وطه حسين وصادق جلال العظم وحسين مروة وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد وغيرهم من المفكرين والمثقفين العرب الذين واجهوا حملات التكفير والمحاكمة وأحيانا القتل. فقد ناقش المؤتمر مواضيع ملحة في الحياة الثقافية العربية تتعلق بمسألة التجديد والتقليد في الفكر العربي وإشكالياته الراهنة، إضافة إلى احياء ذكرى مرور نصف قرن على رحيل طه حسين.
كانت هناك مؤتمرات فكرية خلال العقود الماضية في بيروت والكويت والقاهرة، لكنها لم تؤسس لفكرة النشاط المؤسسي الدائم، كما عملت مؤسسة تكوين الفكر العربي التي تبدو من خلال المشاركين في فعاليتها الأولى هيئة تمثل وجهة فكريّة حرّة أو عصْبة فكريّة يهمّها التنوير والتجديد في الفكر العربي.
ناقش المؤتمر مواضيع ملحة في الحياة الثقافية العربية تتعلق بمسألة التجديد والتقليد في الفكر العربي
لقد أثار عنوان المؤتمر لديّ أسئلة عدة عن المقصود تحديدا بالفكر العربي، هل هو من جهة: الفكر الديني عامة، النصوص التأصيلية، متبوعة بنصوص الاجتهاد الديني المتمثلة بالمذاهب والشروحات والتأويلات؟ أم هو من جهة أخرى الفكر الذي يتأسس على مناهضة فكر التأصيل والاتباع ويسعى نحو مساءلة قضايا وجودية وإنسانية خارج النصوص الدينية في مستوياتها المختلفة؟
فالفكر العربي المعاصر كانت له توجهات كثيرة في مسألة التقليد أو التجديد، لكن السؤال يبقى حول ما أنجز في جانب الإبداع الفكري. فمن الممكن القول إنّ هناك اتجاها متزايدا في التعامل مع النصوص التأصيلية الأولى أو مع تأويلاتها وتفسيراتها، إما بطريقة نقدية كما في كتابات فرح أنطون وصادق جلال العظم ومحمد أركون ونصر حامد أبو زيد وجورج طرابيشي وغيرهم، أو بطريقة تأويلية انتقائية كما عمل طه حسين وزكي نجيب محمود وحسين مروة ومحمد عابد الجابري وحسن حنفي، أو القيام بانتقاء نصوص وأحداث وتأويلات لغوية كما في تجربتي الصادق النيهوم ومحمد شحرور.
لكن ومن وجهة أخرى نلاحظ حضور منحى التقليد أو الإتباع، وهو المنحى المكرّس أو المهيمن في المجتمعات العربية ويتكئ في ممارساته على تأويلات وانتقاءات من النصوص الدينية تلبي حاجاته الدينية والسياسية.
هذا المنحى التقليدي لم يكن اتباعيا تماما، بمعنى أنه لا يتعامل مع النصوص في مجملها، فهو إذ يعمل التأويل في تعامله مع النص القرآني عبر وسطاء من السلف، فإنّه مع النصوص السيرية للنبي محمد وصحابته تظهر انتقائيته لما يلبي توجهه من النصوص بشكل واضح، فنجد أن هؤلاء قد صاروا يحملون وجها محددا، وليسوا كما ظهروا في المصادر التي تحمل سرديات مختلفة قد تصل إلى حد التناقض في ما بينها. كما نجد أن ذهنية التحريم، حسب توصيف صادق جلال العظم، قد طغت على ما عداها في العودة الى قراءة التراث والتعامل معه، ولهذا برزت محرّمات محددة ونهائية دون النظر إلى مسائل الخلاف حولها.
من المهم أيضا الاتجاه إلى مخاطبة المجتمع والحوار معه، باعتباره أساس أي تغيير
في الجانب السياسي من هذه الوجهة، أنشئت أحزاب وجماعات ترفع شعار الإسلام هو الحل، وتدعو إلى تطبيق الشريعة حسب تصوراتها. وتكشف لنا القراءة المتفحصة لأدبيات هذه الجماعات الطامحة إلى تأسيس دولة دينية يرتكز مشروعها على خطاب سلفي تراكمت تصوراته في مختلف نواحي الحياة، ويظهر ذلك بوضوح لدى مرجعيات هذه الجماعات من سيّد قطب إلى حسن الترابي وراشد الغنوشي. وإذا كانت بعض السلطات العربية قد صنفت هذه الجماعات كمنظمات إرهابية فإن معظمها كانت متحالفة في السابق معها.
فقد حوكم مفكرون وأدباء وفنانون من خلال مؤسسات قضائية دينية وليست قانونية دون أن تتدخل السلطات العربية، بل إن بعض حملات التكفير كانت تصدر من مؤسسات وأشخاص وصفوا بالوسطية مثل مؤسسة الأزهر.
لهذا إذا كان من المهم للمشتغلين في المجال الفكري المساهمة في نقد بناء الدولة الحالية وخلفياته الفكرية وتقديم تصوراتهم للحاق بعصر الحداثة، فإن من المهم أيضا، كما يبدو لي، الاتجاه إلى مخاطبة المجتمع والحوار معه، باعتباره أساس أي تغيير. وهو منحى صعب في وقت طغت فيه ثقافة البرقية السريعة والخاطفة عبر وسائط اجتماعية متعددة يبدو أن القائمين على مؤسسة تكوين استوعبوا دورها كوسيلة توصيل للأفكار.
مع هذا، تظل الأسئلة قائمة مع كل مؤتمر أو نشاط فكري: ماذا نجدد من فكر عربي؟ هل نجدد الفكر الديني؟ أم نجدد الفكر القومي، اليساري، الليبيرالي، وهي أفكار كان بعضها عامل حراك اجتماعي مهماً إلا أنها انهارت وتراجعت لعوامل عديدة، أبرزها اتجاه السلطات التي تبنت هذه الأفكار نحو الاستبداد؟
هل هذه الأفكار قابلة للتجديد أم للتجاوز؟ وما الفكر الذي نحن بحاجة إليه وهل علينا نحن أن نبدعه، إذا لم نجدد ما نعتبره منجزا في الماضي؟ وهل هذا الفكر بمعزل عن العالم وأفكاره، إذ صار من السهل الحصول على كتاب أو تسجيل على "يوتيوب" عن فكر أو شخصية فكرية؟ ما علاقتنا بهذا المنجز الإنساني؟ هل سنجدد أو نبدع بمعزل عنه؟ ثم، هل المشكلة فكرية أم هي في مكان آخر؟