في لعبة البوكر الدبلوماسية القاتلة التي تدور رحاها الآن بين إسرائيل و"حماس" حول وقف إطلاق النار في غزة، تشير كل المعطيات الصادرة عن المفاوضات إلى أن النتيجة ستعتمد على مَن مِن الطرفين سيتراجع أولا ويبدأ بتقديم التنازلات.
هنالك أولا حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التي تصر على أن الحرب في غزة لن تنتهي إلا بتدمير البنية التحتية العسكرية العملياتية لـ"حماس" بالكامل. وبالمقابل، تؤكد "حماس" أنها لن تطلق قرابة المئة من الرهائن الإسرائيليين الذين لا يزالون محتجزين في الأسر قبل أن تسحب الحكومة الإسرائيلية جميع قواتها من قطاع غزة وتنهي أعمالها العدائية.
وكانت محاولة التوفيق بين هذين الموقفين المتطرفين في قلب المفاوضات لحل الصراع. وبينما لا تزال هناك إمكانية للتوصل إلى اتفاق بشأن وقف إطلاق النار، فإن الموقف الثابت لكلا الطرفين لا يزال يشكل عائقا كبيرا، كما أظهرت التطورات الأخيرة. وتغيرت المؤشرات السابقة التي تشير إلى أن "حماس" سترفض أي وقف لإطلاق النار مع استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية، عندما أعلنت الحركة الفلسطينية أنها وافقت على خطة من ثلاث مراحل لوقف الأعمال العدائية، مما أثار التفاؤل الأولي بشأن اتفاق وقف إطلاق النار المرتقب.
وبموجب شروط اتفاق الوساطة الذي جرى التفاوض عليه برعاية الولايات المتحدة ومصر وقطر، قال قادة "حماس" إنهم سيوافقون على فترة وقف إطلاق نار مدتها 42 يوما، يتم خلالها إعادة 33 رهينة إسرائيلية إلى إسرائيل، سواء كانوا أحياء أو أمواتا. وفي المقابل ستطلق إسرائيل سراح 30 امرأة وطفلاً فلسطينياً محتجزين في السجون الإسرائيلية مقابل كل رهينة إسرائيلية مفرج عنها.
فإذا ما تم تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق، والتي تتضمن أيضا أحكاما تقضي بإطلاق المزيد من الرهائن مقابل انسحاب عسكري إسرائيلي تدريجي والإفراج عن المزيد من السجناء الفلسطينيين، فستكون الخطوات الأولى قد قُطعت لاستعادة "الهدوء المستدام" إلى غزة.
تبدو "حماس" في عرضها وكأنها ألقت ببطاقتها الرابحة أبكر مما ينبغي
وكان إعلان "حماس" من جانب واحد عن استعدادها لقبول الصفقة سبباً في إثارة حالة من الابتهاج على نطاق واسع في مختلف أنحاء قطاع غزة، التي شهدت مقتل أكثر من ثلاثين ألف فلسطيني، وفق التقارير، بمن في ذلك النساء والأطفال.
بيد أن وهج الابتهاج سرعان ما خبا، عندما رفضت إسرائيل عرض "حماس" لوقف إطلاق النار، وتعهدت بمواصلة غزوها لمدينة رفح جنوب قطاع غزة، وقالت إن الاقتراح الذي قدمته "حماس" في اللحظة الأخيرة لا يلبي مطالبها الرئيسة.
وفي حين تبدو الحركة الفلسطينية في عرضها وكأنها ألقت ببطاقتها الرابحة أبكر مما ينبغي، فإن موافقة نتنياهو على إرسال فريق من المفاوضين إلى القاهرة لمناقشة التوصل إلى اتفاق تشير إلى أن المفاوضات لا تزال حية إلى حد كبير، حتى ولو كنا غير واثقين من النتيجة النهائية.
ويزعم الإسرائيليون أن شروط الصفقة التي عرضتها "حماس"، "بعيدة كل البعد عن" مطالبها الإلزامية، وحذر المسؤولون الإسرائيليون من أن خطة الأخيرة، "خدعة تهدف إلى جعل إسرائيل تبدو وكأنها الجانب الذي يرفض الصفقة".
ونتيجة لذلك، تعتزم القوات الإسرائيلية مواصلة غزوها البري المخطط له لرفح، وهي الخطوة التي أثارت انتقادات من كل من الولايات المتحدة ووكالات الإغاثة الدولية. وقد انعكس إصرار إسرائيل على مواصلة هجومها ضد "حماس" في سيطرتها على معبر رفح وإغلاقه، وبالتالي قطع طريق المساعدات الحيوي عن المدنيين الفلسطينيين.
ومن المرجح أن يؤدي رفض إسرائيل قبول الشروط التي عرضتها الحركة الفلسطينية إلى تعميق عزلة حكومة نتنياهو الدولية، فيما يحث زعماء العالم الجانبين على الاتفاق على الشروط وإنهاء إراقة الدماء في غزة.
ولا ريب في أن الضغوط المفروضة على إسرائيل لحملها على قبول اتفاق وقف إطلاق النار سوف تتزايد بعد قبول "حماس" بضغوط زعماء العالم لحملها على قبول شروط وقف إطلاق النار. وفي حديثه خلال زيارته الأخيرة إلى الرياض لحضور المنتدى الاقتصادي العالمي، وجه وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون نداء خاصاً إلى "حماس" لقبول الاتفاقية.
وقال: "آمل أن تقبل حماس هذه الصفقة، وبصراحة يجب أن تكون كل الضغوط في العالم وكل أعين العالم عليهم اليوم، لحثهم على قبول هذا الاتفاق. فهو سيؤدي إلى وقف الأعمال العدائية الذي نسعى إليه جميعا بشدة".
وقد ردد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن صدى تصريحات كاميرون، إذ أصر على أن "حماس" قد تلقت عرضا "سخيا للغاية" من إسرائيل، وأنه يأمل في أن تقبله.
على الرغم من استعداد "حماس" لقبول الشروط الحالية المقترحة لوقف إطلاق النار، فإن التحدي المستمر يظل يتمثل في إقناع الحكومة الإسرائيلية بالمثل
من المؤكد أن قبول الصفقة المعروضة حتى الآن يمثل تنازلاً كبيراً لـ"حماس"، لأن إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المتبقين - وهو جزء أساسي من الصفقة - يحرم الأخيرة في نهاية المطاف من ورقتها الرابحة الرئيسة فيما يتعلق بتعاملاتها المستقبلية مع الإسرائيليين.
ويعارض قادة "حماس" بشدة المطالبات بتفكيك قيادتهم وبنيتهم التحتية في غزة. في الوقت نفسه، تواجه حكومة نتنياهو ضغوطا داخلية، حيث يهدد أعضاء رئيسون في حكومة نتنياهو اليمينية بالاستقالة في حال قبول نتنياهو صفقة تنطوي على إطلاق سراح عدد كبير من السجناء الفلسطينيين، ما قد يؤدي إلى انهيارها.
وقد أضاف نتنياهو تعقيداً إلى الوضع بقوله إن إسرائيل ستواصل عملياتها العسكرية في رفح بغض النظر عن أي تقدم في المفاوضات المتعلقة بإطلاق سراح الرهائن. وأكد بيان أصدره مكتبه أن "فكرة توقف الحرب قبل تحقيق جميع أهدافها غير واردة".
وعلى الرغم من استعداد "حماس" لقبول الشروط الحالية المقترحة لوقف إطلاق النار، فإن التحدي المستمر يظل يتمثل في إقناع الحكومة الإسرائيلية بالمثل واتخاذ خطوات نحو إنهاء العنف في غزة.
ونتيجة لهذا فإن المفاوضات من أجل وقف إطلاق النار في غزة لا تزال في حالة الجمود، على الرغم من إعلان "حماس" عن استعدادها لقبول الشروط المعروضة حاليا. والسؤال الرئيس الآن هو ما إذا كان من الممكن إقناع الحكومة الإسرائيلية أن تفعل الشيء نفسه وتتخذ الخطوات الأولى نحو وضع حد لإراقة الدماء في غزة.