تتقدم الدبابة الإسرائيلية على مهل وتدوس شعار "أحب غزة" فيما يصرخ الجندي بشيء ما تُفهم منه كلمة "غزة". وفي شريط مصور آخر توجه دبابة ماسورة مدفعها إلى مباني الجانب الفلسطيني من معبر رفح.
مقاطع مصورة أخرى تُظهر آليات مدرعة إسرائيلية ترفع أعلاما هائلة الحجم للدولة العبرية تتجول في حرم المعبر وسط إطلاقات نارية للتمشيط. وبعد كل مقطع مصور، تظهر عربات النازحين البائسة تحمل رجالا ونساء وأطفالا هدهم التعب واليأس إلى حيث لا يعلم المشاهد.
هذه المشاهد اختيرت بعناية ونشرت لإيصال رسائل واضحة العناوين. بعضها يحمل شعار المتحدث العسكري الإسرائيلي والبعض الآخر شعار وسائل إعلام عبرية أو مراسلين محليين فلسطينيين. لكن ناشري المشاهد هذه يعرفون إلى ما ترمي، ومن هو "الجمهور المستهدف" بها.
السذاجة والبراءة والسطحية، لا تفيد بشيء في ظروفنا الراهنة. وافتراض حسن النية من أي طرف مشارك في هذه المأساة لا يعبر إلا عن تجاهل لما يجري إعداده، ليس لرفح ولا لغزة وحدهما. فالغالب على الظن أن المعركة في غزة دخلت طورها الأخير. المطروح للنقاش يتناول المنطقة بأسرها. سواء لمن يريد أن يتابع "المقاومة" و"الممانعة" على النحو الذي ساد في الأعوام العشرين الماضية، ولمن يراقب الموقف بحثا عن طريق نحو مستقبل آمن ومستقر.
ملخص ما نشرته وسائل الإعلام الإسرائيلية الخاضعة كلها للرقابة العسكرية المسبقة، يقول الآتي من دون مواربة وبصراحة تتلاءم مع صراحة العسكريين المنتصرين:
أولا، إن الدبابة الإسرائيلية أعادت انتزاع الردع الذي اهتز في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وما جرى في ذلك اليوم لن يتكرر. غني عن البيان أن الإسرائيليين لا يتحكمون في المستقبل بالقدر الذي يصورون وأن إمكان وقوع مفاجآت، مثلما كان يوم 7 أكتوبر تكرار لمفاجأة 6 أكتوبر 1973، عندما داهم الجيشان السوري والمصري خطوط الدفاع الإسرائيلية في سيناء والجولان. لكن، من جهة ثانية، يتعين القول إن الإسرائيليين سيبذلون جهدا مضاعفا لاستخلاص الدروس مما جرى في غلاف غزة صبيحة ذلك اليوم.
ثانيا، المدفع الموجه إلى مباني المعبر، هو زاوية الرؤية الوحيدة التي ستنظر إسرائيل منها إلى مصالحها مع العالم الخارجي. لا شيء قبل أو فوق الأمن الإسرائيلي، وفق ما تقرره الجماعة اليمينية والدينية المتطرفة في إسرائيل. العلاقات مع العالم الخارجي تمر من فوهة المدفع. وهذا يأتي قبل تحذيرات الولايات المتحدة ونداءات الرئيس جو بايدن وبكائيات الوزير أنتوني بلينكين. مشاعرهما الطيبة حيال إسرائيل مقدرة ومشكورة، لكن أمن إسرائيل يقرره الإسرائيليون.
المدفع الموجه إلى مباني المعبر، هو زاوية الرؤية الوحيدة التي ستنظر إسرائيل منها إلى مصالحها مع العالم الخارجي
ثالثا، غزة لن تعود كما كانت قبل عملية "طوفان الأقصى" وقوافل النازحين اليوم هي الصورة المصغرة للمصير الذي سيواجهه من يعترض على الطريقة الإسرائيلية في حل القضية الفلسطينية. وهي رسالة موجهة خصوصا إلى فلسطينيي الضفة الغربية وإلى اللبنانيين الذين ما زال "حزب الله" يقيم بين ظهرانيهم.
وستعمد إسرائيل إلى إنهاء توغلها في رفح على نحو لا تترك فيه مجالا، لا لـ"حماس" ولا لغيرها، لالتقاط الأنفاس. أما قضية الإسرائيليين في القطاع فيمكن لصراخ الجمهور المنتشي بالقضاء على "بؤرة الإرهاب" أن يطغى على نحيب أمهات الأسرى الذين قد يفقدون أرواحهم قبل وصول الجنود الإسرائيليين إليهم.
بكلمات ثانية، عملية رفح التي استغرق الإعداد لها شهورا عدة وشملت جانبا نفسيا ورسائل سياسية إلى أطراف عديدة، هي خلاصة التصور الإسرائيلي لمستقبل المنطقة وللداخل الإسرائيلي في آن معا: الردع عاد إلى الأيدي الإسرائيلية وأدرك الأعداء في إيران ولبنان والضفة الغربية واليمن والعراق ماذا يمكن أن تفعل إسرائيل ومتانة تحالفها مع الغرب وأولويته بالنسبة لأوروبا وأميركا على ما عداه من اعتبارات. والداخل الإسرائيلي "الديمقراطي" يعبر عن نفسه بمظاهرات واحتجاجات ومقابلات تلفزيونية تندد بسياسات بنيامين نتنياهو وفشله في الحيلولة دون وقوع هجوم 7 أكتوبر. لكن نتنياهو واصحابه يأملون في أن يبقى التنديد ضمن حرية التعبير عن الرأي وليس ضمن سياق للتغيير السياسي.
هذه باختصار رسائل الدبابة التي لا تحب غزة. وهي برسم التأمل والتفكير. هي ليست قدرا. لكن صخبها عالٍ ومدوٍ.