الموت مشكلة فلسفية كبرى وقد تحدث عنها الفلاسفة العظام منذ آلاف السنين، حار فيه فكرهم وأعياهم إعياء لم يروه من غيره. وكان حلّ أبيقور هو تجاهله، فعندما نكون أحياء يجب ألا ننشغل به دون الحياة، وعندما نموت فلن نكون هنا لكي نعاني منه. لكن هايدغر يرفض هذا الحل الذي يبدو على قدر من السذاجة.
لقد كانت الحرب العالمية كارثية ولا منطقية الى درجة أن الرجل كفر بكل منطق العقل وراح يتلمس طريق الفهم في متاهات أخرى. لم يتقدم قط بحلول عقلية، بقدر ما أدلى بتجارب تشبه تجارب المتصوفة. بالنسبة الى هايدغر، غاية الفلسفة الكبرى هي تعميق وعينا بذواتنا كوجود له عالم خاص وعالم عام، ولكي نعي هذا الوجود يجب أن يتساءل: لماذا ثمة وجود، ولم يكن عدم؟ لكي أعرف معنى الأول يجب أن أصبح عارفا للثاني، وإذا عرفتهما فلا بد أن أعرف الفرق بينهما. ما معنى الوجود؟ يجب أن يتعبه سؤال آخر: ما سبب الوجود؟
يقول هايدغر: "يمكن كل إنسان أن يحقق أقصى إمكاناته. ربما أن هويتنا قد تحددت سلفا، لكن الطريق الذي سنسلكه هو دائما من اختيارنا. يجب ألا نسمح لمخاوفنا أو لتوقعات الآخرين بأن ترسم حدود مصيرنا. لا يمكنك تغيير مصيرك، ولكن يمكنك دائما أن تتحدّاه. يولد الإنسان كما يولد غيره، لكنه يموت موتا فريدا".
إذا أردت أن تكون إنسانا حقيقيا فمن الضروري أن تتصور حياتك باستمرار في أفق موتك
الوجود هو الزمن، والزمن محدود، ووجودي الشخصي متزمن بزمن محدد، وبالنسبة إلى البشر ينتهي الزمن بما نسميه "الموت". لذلك إذا أردت أن تكون إنسانا حقيقيا فمن الضروري أن تتصور حياتك باستمرار في أفق موتك. هذا ما يسميه هايدغر "الوجود في مواجهة الموت". فإذا علمنا أن وجودنا محدود، فليس في مقدورنا أن نعيش حياة إنسانية أصيلة حقيقية إلا بأن نواجه محدوديتنا بشجاعة. يجب أن نخلق معنى لحقيقة موتنا، وقديما كانوا يقولون إن الفلسفة هي أن تتعلم كيف تموت. إذا وعينا الدرس فإن هذه المواجهة سوف تقودنا إلى سهول رحبة.
الموت غير علائقي. حين نقف في مواجهته نقطع كل علاقاتنا مع الآخر. ولا يمكن أبدا أن تجرّب طعم الموت عندما يموت قريب تحبه، مهما حزنت عليه. ستعيش تجربة الموت عندما تموت أنت فقط. شيء يقيني هذا الموت، لا يمكن أن نتخيله وهما من الأوهام. بإمكانك أن تتجاهله، أو أن تهرب منه، أو أن تتناساه لسنين طويلة، لكنك تعلم في قرارة نفسك أن حياتك ستنتهي حتما بالموت. مع أننا لا نعرف متى سيأتي.
يقول هايدغر إن الموت هو "إمكان الاستحالة"، أي أنه المعيار الذي أقيس به قدرتي على الوجود، هو ذلك العجز الحتمي الذي تتحطم عليه كل قوى حريتي وإمكاناتها. والوجود والزمن عنصران في قصيدة "للممكن"، وأعلى تعبير عن هذه القصيدة سنجده دائما في الوجود في مواجهة الموت.
لكن هايدغر لا يوصينا بانتظار الموت كحال اليائسين من الحياة المنكرين عظمتها، فهو يقبل بتوقع الموت لكنه لا يريدنا أن ننتظره. التوقع وحده هو الذي سيحدونا لكي نستخدم فناءنا كشرط للفعل الحر في هذا العالم. عندما تدرك هذه الحقيقة تصبح حرا حقا.
فقط في "الوجود في مواجهة الموت" أصبح مدركا حريتي تمام الإدراك
وستنتج من هذا فكرة في غاية الأهمية وإن كانت تنطوي على مفارقة، فالحرية ليست في غياب الضرورة الجبرية التي تجيء في صورة الموت، بل على العكس من ذلك تماما، تتمثل حرية الإنسان في الاعتراف وتأكيد ضرورة موت الإنسان. فقط في "الوجود في مواجهة الموت" يمكن للإنسان أن يصبح الإنسان الذي هو هو حقا وصدقا، فوراء فكرة الموت كإمكان استحالة والقبول بالفناء يختبئ إثبات حد حياة الإنسان وتأكيد وجوده الحقيقي غير الزائف.
لكل ذلك، لا يوجد شيء كئيب في "الوجود في مواجهة الموت"، فهذا الأسلوب في الوجود يجذب وينقّي الإنسان من انغماسه في الحياة اليومية الزائفة ويخرجه عن حد الثرثرة المعتادة، لكي ينال فرصته في الاندماج في ذاته. فقط في "الوجود في مواجهة الموت" أصبح مدركا حريتي تمام الإدراك ومبتهجا بها أيضا.