شعراء عرب استلهموا أسطورة "زرقاء اليمامة"

 والبرقوقي في شرحه ديوان المتنبي، يختصر القصة على النحو الآتي : (جوّ) قصبةُ

اليمامة (أي بلدة في اليمامة)، وزرقاء اسم امرأة من أهل "جوّ" حديدةُ البصَر، تدرك ببصرها الشيء البعيد، فضربت العرب بها المثل، فقالوا : أبصَرَ من زرقاء اليمامة. وقيل إنها امرأة من جديس كانت تُبصر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام، فلما قتلت جديس طسما خرج رجل من طسم إلى حسان الحميري فاستجاشه ورغّبه في الغنائم، فجهّز إليهم جيشا، فلما صاروا في "جوّ" على مسيرة ثلاث ليال، صعدت زرقاء فنظرت إلى الجيش، وقد أُمروا أن يحمل كل رجل منهم شجرة يستتر بها... فقالت: يا قوم قد أتتكم الشجر أو أتتكم حِميَر، فلم يصدّقوها، فقالت:

أُقْسِم بالله لقد دبَّ الشجَرْ      

أم حِميَرٌ قد أخذتْ شيئا يُجَرّْ

   واليمامة تقع في وسط الجزيرة العربية، وأما زرقاء اليمامة فدُعيتْ بذلك لأن لون عينيها أزرق. وتُستكمل القصة بهجوم شنّه حسان المذكور، وأخذ زرقاء فشقّ عينيْها فإذا فيهما عروق سود من الإثمد، وقيل إنها أول من اكتحل بالإثمد من العرب، وكل ذلك في فترة سبَقت الإسلام بزمن يُختلَف في تقديره. وفي بعض الروايات كانت زرقاء اليمامة عرّافة تقرأ المستقبل.

 عناصر القصة مغرية للشعر والشعراء، لأنها مبنيّة على بُعد النظر وحِدّته، واستثمارها في الشعر من شأنه أن يعبّر عن الحاجة إلى النظر بعيدا وعميقا، أي إلى شحذ البصَر والبصيرة، سواء في مستوى الفرد أو في مستوى الجماعة.

في الشعر الجاهلي  

بعض الشعراء الجاهليين استعادوا قصة زرقاء اليمامة، واستثمروها في إشاراتهم إلى ضرورة التحلي بالذكاء والحكمة وبُعد النظر. وأكتفي هنا بذكر بعض الأبيات من قصيدتين مشهورتين للنابغة والأعشى.

في قصيدة النابغة الذبياني الدالية، التي تُعدّ من المعلقات (إذا كانت عشْرا )، يدعو الشاعر إلى الحكْم على الأمور برويّة ودقة، والمشهور أنه يقصد في دعوته هذه النعمان بن المنذر، فيقول:

فاحكُمْ كحُكْم فتاة الحي إذْ نظرتْ     

إلى  حَمام شِراع  وارِد  الثَّمَدِ

يحفُّهُ  جانبا  نِيقٍ وتُتْبِعُهُ               

مثلَ الزجاجة لم تُكْحَلْ من الرَّمَدِ

زرقاء اليمامة هي المقصودة بفتاة الحي. وقد طُلب منها أن تحدّد عدد الطيور في سرب من الحمام، اختبارا لبصَرها وذكائها في آن واحد. ويعبّر النابغة في الأبيات اللاحقة عن جواب زرقاء اليمامة الذي ينمّ عن فطنة خارقة. جوابها صاغه الشاعر نموذجا للحُكم حكما مصيبا. مُشبّها عيني زرقاء اليمامة بالزجاجة لشدة صفائهما.

مثل ذلك نجده في قصيدة عينية للأعشى. فهو يستعيد عناصرَ من القصة الشائعة لكي يقول إن نظرة زرقاء اليمامة هي نظرة نافذة لا تكذب:

ما نظرتْ ذاتُ أشفار كنظرتها    

حقّا كما صدقَ الذئبيُّ إذْ سجَعا

إذْ نظرتْ نظرة ليست بكاذبةٍ     

إذْ يرفعُ الآلُ رأسَ الكلبِ فارتفعا

رأس الكلب في بعض الشروح هو جبل في اليمامة. والأعشى هنا لا يرى "ذات أشفار" يمكن مقارنة نظرتها بنظرة زرقاء اليمامة.

هكذا نجد الشعر العربي، منذ العصر الجاهلي، محتفيا بزرقاء اليمامة رمزا لقوة البصَر والبصيرة. بل نجد الدعوة إلى التمثل أو الاحتذاء بها، من أجل ابتكار الرؤى والآفاق الجديدة والبعيدة. وعلى مثلِ هذا جرى الشعراء العرب في مختلف العصور. وحدَه المتنبي رأى نفسه (أبصَرَ) من زرقاء اليمامة، أبصَرَ منها بصَرا وبصيرة، ربما لأنه لم يستطع أو لم يشأ التخلي عن شعوره بالتفوق، في كل ما تركه لنا من قصائد.

في الشعر المعاصر

 ربما نحن اليوم، في هذه المرحلة التي نعيشها، أحوج ما نكون إلى الرؤى الواضحة (نسبيا) وإلى بُعد النظر. إنها حقّا مرحلة من التخبط، قد يصحّ تحديد بدايتها بالعام 1948، عام النكبة. لقد عرفت بلداننا العربية، بعد قيام دولة إسرائيل، ما لم تعرفه من قبل من أخطار وتحديات وحروب وانقسامات. والثقافة العربية في هذه المرحلة دخلت في اختبارات قاسية متتالية، أفضت جميعها إلى المأزق أو الحيرة. وذلك في جميع المستويات، فكرية كانت أو سياسية أو عقائدية أو اقتصادية أو عسكرية. والشعر (أو الأدب عموما) وجد نفسه مدعوّا إلى استيعاب هذه الأوضاع المعقدة ونقدها، لمحاولة الإشارة إلى ما يُمكّن من تجاوزها أو الخروج منها أو تخفيف مآسيها.

ألا تبرز الحاجة هنا إلى زرقاء اليمامة؟ إلى زرقاء معاصرة تتمتع بقوة البصَر والبصيرة؟ والشعر العربي الحديث، الذي عملَ منذ انطلاقته المتزامنة مع نكبة فلسطين، على استثمار الأساطير والرموز في استنباط الدلالات التي تساعد في تشكيل الرؤى، لم يغفل عن الرمز الذي تمثله زرقاء اليمامة، فرغب بعض شعراء الحداثة في استثماره، ونوّعوا عليه، مازجين ذلك بمشاعر الأسى والمرارة إزاء الظلام الْمُحْدِق، الذي لم يترك فسحة للنظر.

 من بين القصائد الحديثة التي بُنيت على زرقاء اليمامة ودلالاتها وما ترمز إليه، أكتفي بالكلام على قصيدة الشاعر المصري أمل دنقل، "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، التي كتبها في العام 1967، عام الهزيمة، قبل أن يرحل في العام 1983. تبدأ القصيدة على النحو الآتي:

               أيتها العرّافة المقدّسهْ

                جئتُ إليكِ مُثْخَنا بالطعنات والدماءْ

               أزحفُ في معاطف القتلى،

               وفوق الجثث المكدّسهْ  ...

لا أودّ هنا أن أحكم فنيّا على القصيدة، وإنما سأكتفي بالكلام سريعا على كيفية استخدام الرمز. يبدأ الشاعر مناديا زرقاء اليمامة، مستنجدا بها. يصفها بالعرّافة المقدّسة، ويناشدها في خلال القصيدة أن تتكلّم، أن ترى، أن تفعل شيئا، مصوّرا ما آلت إليه الأمور من خراب وفساد وموت. وتنتهي القصيدة بقوله:

               وأنتِ يا زرقاءْ

               وحيدةٌ عمياءْ

               وحيدةٌ عمياءْ

زرقاء اليمامة، الرمز أو الأسطورة، ترى أكثر من غيرها، ترى إلى البعيد، وتُنذر قومها، تنبّههم إلى الخطر المتمثل بقدوم الأعداء. أما زرقاء المعاصرة، زرقاء أمل دنقل، فهي وحيدة عمياء. هي الأخرى في حاجة إلى النجدة. هكذا يجد الشاعر طريقته في تصوير الواقع المأسوي المقفَل، فالرمز الذي يستنجد به لم يعد قادرا على توظيف نفسه في ما وُضع له. الرموز نفسها تموت، والدلالات الرمزية تصبح عقيمة. وزرقاء التي ترى، باتت لا ترى، صارت وحيدة عمياء. هكذا وجد الشاعر طريقته للقول إننا فقدنا من يُبصِر، فقدنا البصر والبصيرة. هذه الفكرة المتعلقة بفقدان الرؤى لدى الجماعة أو الشعب أو القوم ذكرتْني بهذا البيت لأبي العلاء المعرّي:

وبصيرُ الأقوام مثليَ أعمى     

فتعالَوْا في حندِسٍ نتصادمْ

الحندِس هو الظلام، والظلام صار شاملا، وكذلك العمى صار شاملا. هكذا نجد في قصيدة أمل دنقل صدى لبعض ما قاله المعرّي في شعره، وخصوصا في البيت الذي مرّ ذكره. من ناحية ثانية، يمكننا القول إن علاقة الرمز بالواقع ليست ثابتة، بل متطورة. فإذا كان الواقع يستنجد أحيانا بالرمز، فإن الرمز يتأثر بالواقع، وقد يموت بموته.

كم نحن اليوم في حاجة إلى زرقاء اليمامة، كم نحن في حاجة إلى إحياء الرموز لكي نستنير بها، لكي نستعيد البصَر والبصيرة.