خطف المنتدى الاقتصادي العالمي، الذي استضافته الرياض للمرة الأولى خارج دافوس، بعض الأضواء عن الاجتماعات السنوية للبنك الإسلامي للتنمية، المؤسسة الإنمائية العريقة التي احتفلت بـ"اليوبيل الذهبي" هذه السنة. الحدث، الذي تزامن مع انعقاد المنتدى، والذي اختتمت فاعلياته مع نهاية أبريل/نيسان تحت شعار "نعتز بماضينا ونرسم مستقبلنا: الأصالة والتضامن والازدهار"، لا يقل أهمية وتأثيرا، فالأول رسم ممرات الانتقال إلى اقتصاد عالمي مزدهر، والثاني أكد مسيرة استثنائية ومميزة من العمل الاقتصادي والاجتماعي، ذي المستوى الدولي، الذي لم يهدأ ولم يكل طوال نصف قرن وعبر الدول الـ57 الأعضاء في البنك، المنتشرة في أربع قارات، بل وأبعد من ذلك.
وقد ثمن مجلس الوزراء السعودي في جلسته الأخيرة، احتفالية اليوبيل الذهبي للبنك الإسلامي للتنمية، مجدداً التأكيد على "التزام المملكة الراسخ بمبادئ التضامن الإسلامي والتنمية المشتركة، وحرصها على مواصلة العمل مع البنك لتحقيق أهدافه في دعم التعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء والدول الأخرى".
المتابع لتاريخ البنك وإنجازاته، لا يسعه إلا تأكيد مكانته، واحترام أدائه، وثمار عمله، والتأثير الكبير (Impact) الذي أحدثه في الدول التي قدم العون إليها أو كان لها نصيب في مشاريعه ومبادراته، وهو الذي يعد أحد أكثر بنوك التنمية المتعددة الأطراف نشاطا في العالم، إذ تطور من كيان واحد إلى مجموعة من خمسة كيانات متخصصة بالاستثمار والتجارة وتنمية القطاع الخاص والتدريب لتعزيز المهارات.
قد يسأل سائل، ما الذي يميز البنك الإسلامي للتنمية عن هيئات دولية مشابهة بطبيعة عملها وأهدافها المعلنة مثل صندوق النقد والبنك الدوليين؟ حتما، يعتمد البنك في تعاملاته الاقتصادية على الأدوات التمويلية المتوافقة مع الشريعة الإسلامية، من بينها تقديم قروض من دون فوائد، والمشاركة في رأس المال والربح وكذلك التأجير، وهذا السبب الأول يكفل إزاحة كم هائل من الأعباء والشروط عن كاهل الدول المستهدفة بالدعم، ويسمح لها بالتركيز على الجانب المنتج والتنموي من القروض الممنوحة.
يختلف منهج البنك الإسلامي للتنمية بشكل واضح عما تعتمده المؤسستان الدوليتان ومثيلاتهما، اذ يعتمد برنامجا موحدا من دون فرض الشروط القاسية على الدول التي تسقط في أتون الحاجة الماسة الى قروض ومساعدات
"القروض الرحيمة"
إلى ذلك، يكفي أن ندرك هدف المؤسسة السامي في تحسين نوعية حياة شعوب الدول المستفيدة، عبر توفير "القروض الرحيمة" للمؤسسات والدول، كل بحسب حاجته، وترسيخ الشراكة مع هذه الدول لإنتاج مشاريع وخطط تنموية اقتصادية واجتماعية على السواء. ويقدر أن عمل البنك وتأثيره يمسان حياة فرد من كل خمسة أفراد من سكان العالم.
يختلف منهج البنك الإسلامي للتنمية بشكل واضح عما تعتمده المؤسستان الدوليتان ومثيلاتهما، اذ يعتمد برنامجا موحدا من دون فرض الشروط القاسية على الدول التي تسقط في أتون الحاجة الماسة الى قروض ومساعدات، وهي دول تختلف ديناميكيات اقتصاداتها، ومستوى الثقافة المالية والاستهلاكية لديها، أو تحتاج الى التكيف مع سياسات التنمية الليبيرالية التي قد تكون مرتبطة بعادات وتقاليد وأسس دينية متفاوتة في كل بلد. أضف الى ذلك الضغوط، والآثار المدمرة للشعوب أحيانا، التي يفرضها تنفيذ الشروط الإصلاحية القاسية للمؤسسات المانحة التقليدية الدولية، والمطالب السياسية والاجتماعية التعجيزية في بعض الأحيان، المقترنة بكل قرض، من سياسات تقشفية يدفع ثمنها المواطن، وفقط المواطن، من الطبقة الفقيرة أولا، وفرض الضرائب والرسوم وتراجع القدرة الشرائية للطبقات الأقل حظا في المجتمع، أي إمعانا في تخطي حد الفقر، على أمل أن تكون الأموال الواجب تسديدها مجدية ولا تؤدي إلى إغراق البلاد في مزيد من الديون، والفساد، ودفع دول إلى حلقة مفرغة من السياسات الاقتصادية المجحفة، ودفع أثمان سياسية وسيادية للخروج من براثن الديون وفوائدها.
توجه أخلاقي واجتماعي مستدام
يعرّف البنك الإسلامي للتنمية عن نفسه كرائد عالمي في التمويل الإسلامي، ويقدم هيكلية تمويل مستدامة، تتحلى بأخلاقيات الأعمال (Business Ethics) الطويلة الأجل لدعم استثماراته في المشاريع.
حقق البنك نجاحا كبيرا في أسواق رأس المال الإسلامية وصار أكبر مصدر عالمي للصكوك التي من خلالها يمول البحوث والتدريب لتطوير مستقبل الصيرفة الإسلامية
حقق البنك نجاحا كبيرا في أسواق رأس المال الإسلامية وصار أكبر مصدر عالمي للصكوك التي من خلالها يمول البحوث والتدريب لتطوير مستقبل الصيرفة الإسلامية والتمويل الإسلامي. وقد حصل في العقدين الأخيرين على تصنيف AAA، وخوله النجاح والركائز الثابتة لعمله اجتذاب المستثمرين وتوسيع قاعدتهم لديه.
وإذ يسعى البنك للحفاظ على التراث الإسلامي الغني، يواكب الحلول والمبادرات التي يطرحها أو يتولى تنفيذها، وكذلك الحداثة والمتغيرات في النهج العالمي والاستراتيجيات الدولية المشتركة، للحد من الأزمات وآثارها المدمرة للدول والشعوب، منها أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة السبعة عشر، ودعم الابتكار والعلوم والتكنولوجيا للنهوض بالتنمية، وتعزيز المهارات والخبرات والمعرفة، من خلال منصة "الانخراط" (Engage) وصندوق "التحول" (Transform) وغيرهما.
الرئيس التنفيذي للشراكة العالمية للتعليم، لورا فريجنتي لـ "الشرق": نشارك في اجتماعات مجموعة البنك الإسلامي للتنمية لإطلاق المرحلة الثانية من برنامج "التعليم الذكي" بدول الخليج الذي استثمرنا فيه 100 مليون دولار العام الماضي @GPECEO_#اقتصاد_الشرقpic.twitter.com/8PQiuJG9ND
— Asharq Business اقتصاد الشرق (@AsharqBusiness) April 29, 2024
مميز بعضوية دول الجنوب
من أكثر ما يميز البنك الإسلامي للتنمية، نوعية الدول الأعضاء لديه. فكل هذه الدول تعتبر من دول الجنوب، من بينها 27 دولة أفريقية، يتقاسم معظمها أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية متشابهة، ويكون التعاضد في ما بينها تجسيدا لرغبة فعلية في التعاون وتحسين إمكانات الدول من خلال حلول تنموية هادفة ومعالجة الاحتياجات والأولويات عبر مشاريع وتمويلات بمليارات الدولارات، تصل حصة الدول الأقل نموا بين الدول الأعضاء إلى 90 في المئة منها. وتوجه التمويلات لتجهيز البنى التحتية المطلوبة، وتحفيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة على سبيل المثل، مما يرفع قدرة هذه الدول على تنمية اقتصاداتها والحفاظ على القيم المنتجة لديها بدلا من تصديرها إلى الخارج، وتعاملها مع الأزمات العالمية القائمة والمستجدة.
كان البنك قد التزم في مؤتمر الأطراف السابع والعشرين (COP27) إلى جانب مجموعة التنسيق العربية، تقديم تمويل بقيمة 24 مليار دولار حتى عام 2030 للمساهمة في حلول معضلة تغير المناخ، كما أطلق في 2022 حزمة تمويل بقيمة 10,5 مليارات دولار تجاوبا مع أزمة الغذاء
يشار الى أن هذه الدول تتمتع مجتمعة بثروة من الموارد اللازمة لتطوير أنظمة غذائية مستدامة، فهي تشكل نحو 29 في المئة من الأراضي الزراعية في العالم، وتنتج 18 صنفا من أهم 20 صنفا زراعيا الأكثر تداولا في العالم، وتمثل 14 إلى 15 في المئة من إنتاج الحبوب والخضر في العالم.
وكان البنك قد التزم في مؤتمر الأطراف السابع والعشرين (COP27) إلى جانب مجموعة التنسيق العربية، تقديم تمويل بقيمة 24 مليار دولار حتى عام 2030 للمساهمة في حلول معضلة تغير المناخ، كما أطلق في 2022 حزمة تمويل بقيمة 10,5 مليارات دولار تجاوبا مع أزمة الغذاء الناجمة عن الصراع شرق أوروبا. إن دلت هذه الأرقام على شيء، فهي تؤكد المكانة الكبيرة للبنك الدولي الاسلامي وتوسعه العالمي، أكان عبر حجم مبادراته ومواقعها، أم من خلال الثقل العالمي الذي تشكله الدول الأعضاء باقتصاداتها.
رئيس البنك الإسلامي للتنمية محمد الجاسر لـ"الشرق": البنك يستهدف اقتراض 6 مليارات دولار، خلال العام الجاري، لتمويل مشروعات تنموية ذات عائد عالٍ بالدول الأعضاء، و4.5 مليار دولار الالتزامات المتوقعة على البنك في 2024
التفاصيل: https://t.co/9PwE2oPvxH@isdb_group@WaelMahdipic.twitter.com/5rzVI3tj6z
— Asharq Business اقتصاد الشرق (@AsharqBusiness) April 28, 2024
مبادرات وشراكات تعليمية وصحية
للبنك شراكات ومبادرات اجتماعية واسعة مع منظمات أخرى دولية أو محلية أو مع المجتمعات المدنية، تشمل الصحة والتعليم والثقافة والأمن الغذائي وريادة الأعمال والطاقة بشكل أساسي، انطلاقاً من قناعتها بالدور المحوري لهذه القطاعات وأهمية إرسائها في تحقيق التنوع الاقتصادي وتعزيز السلام والاستقرار والازدهار ضمن المجتمعات. وهذا ما يتناغم مع إحدى الدعائم الرئيسة لـ"رؤية 2030" التي أطلقتها المملكة، الحاضنة للبنك الإسلامي للتنمية منذ إنشائه، في التركيز على تنمية رأس المال البشري وبناء المهارات المتقدمة لإعداد جيل الشباب وتحضيره لمتطلبات وظائف المستقبل. وقد استفاد من مبادرات البنك الإسلامي للتنمية، التي تخطت 600 مشروع منذ انطلاق عمله، مئات آلاف اللاجئين وعشرات آلاف الطلاب في أكثر من 100 دولة.
لا شك أننا نعيش في عصر يتصدر فيه شح التمويل سلم التحديات التنموية، لا سيما حين يعتمد التمويل على مساهمات الدول التي تتخبط في بحر من الأزمات داخليا وخارجيا
وتتوقع مجموعة البنك الإسلامي للتنمية، أن تخسر الأجيال الحالية في العالم 17 تريليون دولار من مكتسباتها المالية التي يمكن أن تحققها مدى الحياة بسبب توقف أو تعثر التعليم، لا سيما خلال أزمة "كوفيد – 19" والأزمات الأخرى المتفاقمة، وهي خسارة فادحة لا يتوانى البنك عن السعي للمساهمة في الحد منها، أو معالجتها خصوصا في الدول الأعضاء المنخفضة الدخل لدى البنك، والتي قد تدفعها هذه الأزمات إلى تقليص موازنات التعليم لديها بدلا من زيادتها. هذا عدا مبادرة تمويل التعليم الذكي في 37 دولة من الدول الأعضاء، التي تضم مجتمعة نحو 28 مليون طفل خارج المدارس
شح التمويل
لا شك أننا نعيش في عصر يتصدر فيه شح التمويل سلم التحديات التنموية، لا سيما حين يعتمد التمويل على مساهمات الدول التي تتخبط في بحر من الأزمات داخليا وخارجيا، ولا تتوانى عن اقتطاع مخصصات عدة من موازناتها هربا من العجز والإفلاس. البنك الإسلامي للتنمية ليس بعيدا من هذه التحديات، إلا أن صلابته أمام الرياح العاتية واستمراره في اجتذاب المستثمرين على الرغم من الضوابط الأخلاقية والعقائدية التي تفرضها الشريعة الإسلامية، خير دليل على نجاح منهجه وصدقيته على ساحة التمويل الدولية وأسواق المال بكونه ساعيا أولا وأخيرا إلى إحداث فرق وتحول منشود في المجتمعات التي يعمل لخدمتها وعلى نحو شامل لا سيما لدى الشباب والنساء والفئات الضعيفة أو المهمشة.