مايو الفرنسي ومايو الأميركي

مايو الفرنسي ومايو الأميركي

بعد اعتصامات الطلبة في الجامعات الأميركية، ها هي العدوى تنتقل إلى باريس، وإلى بعض الجامعات الفرنسية. في الأمس كانت عدوى القارة المسنة هي التي تنتقل، لا إلى القارة الجديدة وحدها، وإنما عبر العالم أجمع. لكن الظاهر أن القارة العجوز، هذه المرة، قد ازدادت شيخوخة، ولم تعد قائدة لأي حركة، كي لا نقول إنها هي نفسها لم تعد تقوى على ذلك.

يمكن أن نقول إن حركة الطلاب الأميركيين، منذ أن انطلقت، كانت متجهة في أنظارها خارجا، فهي لم تنبع، مثل نظيرتها الفرنسية، بفعل عوامل داخلية، ما حرّكها أساسا هو ما أخذ أولئك الشباب، الذين عاشوا لمدة طويلة مغمّضي العيون على ما يقع خارجا، ما أخذوا يلمسونه من جرائم تباركها دولتهم، وتنفق عليها المؤسسات التابعة لجامعاتهم. إنهم لم يطعنوا لا في بنية الجامعات، ولا في محتوى ما تروّجه من أفكار، بل اعتصموا احتجاجا على ما يقع في غزة من ظلم وإبادة. ليس وراء ما يقوم به هؤلاء الطلبة فكر يمكن أن يقارن بما سمي "فكر 68" في فرنسا، ذلك الفكر الذي نبع من قلب الجامعات الفرنسية، ومن قلب الفكر الفرنسي، بل الذي خلخل نظام ذلك الفكر، وقلب منظومة تلك الجامعات، وغيّر محتوى ما كانت تدرّسه، بل غيّر بنية الجامعة وهيكلها، فشكل منعرجا بين عهدين، وعالمين متباينين من الأفكار.

حاولت بعض الشعارات أن تجعل حركة الاعتصامات متجذرة في التاريخ الأميركي، مذكرة بحرب فيتنام ومقاومة الأبارتايد، إلا أن الخيط التنظيري الذي يمكن أن يربط بين الحاضر الأميركي وماضيه، لا يزال ضعيفا. الأمر الذي حصر مطالبات الحركة الطالبية "في حث مؤسسات التعليم العالي على التخلي عن استثماراتها القريبة والبعيدة في إسرائيل".

أولئك الشباب، الذين عاشوا لمدة طويلة مغمّضي العيون على ما يقع خارجا، حركهم ما أخذوا يلمسونه من جرائم تباركها دولتهم وتنفق عليها جامعاتهم

غير أن البعض ذهب إلى أن هذا الحراك تمخض عن "مخاض فكري" تولد عما خلفته الدراسات ما بعد الكولونيانية التي عرفت، في وقت ما، ازدهارا كبيرا في الولايات المتحدة. وفي الأحوال جميعها، فإننا لا يمكن أن ننكر بوادر "تحولات" تعرفها بعض الأوساط الأميركية.

ما يؤكد هذا، هو أن هناك طلبة يهودا ترعرعوا في أسر إسرائيلية هم من بين من يشاركون في الاعتصامات. وهذا وحده دليل على بدايات تحوّل في المجتمع الأميركي الذي أخذ يشاهد أجيالا جديدة تنفصل عن المناخ الذي ترعرعت فيه، وتتحرر من سرديات طالما ترسخت في أذهان الأميركيين، فحددت علاقاتهم بالعالم، ورؤيتهم لما يجري فيه.

كان شعار أحداث 68 "المنع ممنوع" Il est interdit d'interdire، أما نداء الطلبة الأميركيين فقد ظل محصورا في قولهم: "نحن هنا من أجل إحداث ضجيج، من أجل الصيحة، ومن أجل التحسيس". وقد رأينا بالفعل كيف أن مجموعة من الطلبة قدموا ليلا أمام بيت رئيسة جامعة كولومبيا ليوقظوها من مضجعها عن طريق الصياح، محدثين ضجيجا قويا أمام مسكنها.

مطلب هؤلاء الأساس: إنهاء الاستثمارات في حرب غزة. لقد أيقظهم ما حدث في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 من سباتهم "السياسي"، فكسوا رمز تحررهم بلباس المقاوم الفلسطيني، وغلفوا تمثال ج. واشنطن بملصقات شعاراتهم من رأسه حتى أخمص قدميه، وجعلوه يحمل كوفية وعلما فلسطينيا حول عنقه. بل إنهم ذهبوا حتى إطلاق اللفظ العربي "انتفاضة" على حركتهم، آملين، كما قالوا، إعطاء الانتفاضة بعدا عالميا. وقد أزعج هذا البيتَ الأبيض أيّما إزعاج، خصوصا أن أصداء الشعارات لم تكن إلا على بعد دقائق من موقعه مما جعل ناطقه الرسمي "يدين بشدة استعمال كلمة انتفاضة".

وجدت السلطة نفسها في حرج مضاعف، وموقف لا يخلو من تعقيد. كان عليها، في الوقت ذاته، أن توازن بين استتباب الأمن واحترام حرية التعبير، والتخوف من إظهار أي معاداة للسامية. وكل هذه الأمور من "الثوابت" التي طالما راعت السلطة تقديسها لكونها هي التي تضمن بقاءها، وتحدد موقفها، وتميز القائمين عليها عن "خصومهم". لذا أعلنت أنها ضد ما يقوم به الطلبة لأن "نصب المخيمات لا يدخل ضمن حرية التعبير". وعلى الرغم من ذلك، لم تتردد، في إلقاء القبض على طلبتها بهدف فض الاعتصامات. مما دفع كثيرا من أساتذة الجامعات إلى توجيه انتقادات حادة إلى السلطات "لما تقوم به حفاظا على السردية التي كانت دوما معتمَدة لصالح إسرائيل".

  أزعج هذا البيت الأبيض أيّما إزعاج حينما وصلته أصداء الشعارات التي لم تكن إلا على بعد دقائق من موقعه

كان طبيعيا أن تتأثر هذه الاعتصامات بالملابسات الداخلية، إذ إنها جاءت عشية الانتخابات المقبلة، فكانت فرصة لأن يواجه الجمهوريون في جبهة واحدة متراصة، الديمقراطيين المتصدعين. وقد أتاح ذلك لدونالد ترمب أن يسخر من منافسه، ويوجه إليه انتقادات لاذعة.

ما يميز اعتصامات الطلبة الأميركيين عن الظروف التي عرفت أحداث مايو/ أيار 68 هو تدخل مواقع التواصل الاجتماعي التي لم يكن لها وجود في ذلك الوقت، والتي زادت من توسع الاعتصامات وانتشارها في مختلف الجامعات، بل نقلتها خارج القارة بكاملها. لكن هذه الميزة التكنولوجية ليست ربما كافية كي تجعل هذه الحركة تتغلغل بالفعل، ليس في أوساط الطلاب ومؤسساتهم الجامعية فحسب، بل في أذهانهم ومحتوى ما يتلقونه من دروس، وما يتشرّبونه صباح مساء، عبر مختلف الوسائط، قديمها وجديدها.

font change