أثيرت حوله قصص وحكايات، فبعضهم قال إنه أمير روسي استوطن دمشق هربا من بطش الثورة البلشفية، وقال آخرون إن زوجته كانت من أقرباء القيصر نقولا الثاني، وإن أملاكها ومجوهراتها صودرت سنة 1917. هذا بعض ما قيل عن إيراست بيلينغ – أو البارون بيلينغ – يوم وصل دمشق مع أسرته الصغيرة سنة 1927. لا تتوافر معلومات عنه في الأرشيف السوري باستثناء ما كتبه الباحث الموسيقي صميم الشريف، الذي عرفه شخصيا في أثناء إقامته الطويلة في سوريا. معظم المرويات المحكية عن بيلينغ تفيد بأنه كان قائدا ثانيا لفرقة سان بطرسبرغ الأوبرالية، التي دخلها عام 1907 عازفا على آلة الكمان. عدنا إلى المصادر الروسية التي زودنا بها المركز الثقافي الروسي في دمشق، ووجدنا أنه ولد سنة 1878، وخدم في الحرب العالمية الأولى حيث أصيب وسُرح من الجيش. عمل في أوركسترا سان بطرسبرغ حتى بعد الثورة البلشفية، وكانت آخر حفلاته داخل روسيا في 25 مايو/ أيار 1919. المؤكد أنه وصل دمشق قادما من الاتحاد السوفياتي عن طريق طهران، وأنه كان مفلسا، وليس بيده صنعة لكسب لقمة العيش إلا موهبته الكبيرة في العزف.
الآلات الغربية تدخل بيوت دمشق
سكن بيلينغ في شقة بين حي الشعلان وساحة عرنوس، وتعاطف معه أهالي المنطقة، وكانوا يرسلون اليه "سكبة" من طعامهم، من منطلق إكرام الضيف ومشاركة الخير مع الجيران. بدأ يعطي دروسا خاصة في منزله للراغبين في تعلم العزف على الكمان والبيانو، بينما أعطت ابنته تمارا دروسا خاصة في رقص الباليه للأجنبيات المقيمات في دمشق، و للدمشقيات الراغبات في تعلم هذا النمط من الرقص الغربي. أما زوجته ساندرا فلا علاقة لها بعائلة رومانوف الحاكمة في روسيا قبل قيام الثورة البلشفية، كانت ممثلة ومغنية محترفة، عملت في خياطة الدمى الروسية الريفية في دمشق، وبعضها معروض اليوم في المعهد الشرقي في جامعة شيكاغو. أطلقت على الدمى اسم "البارونة بيلينغ"، فصار الدمشقيون يسمون زوجها "البارون"، علما أنه لم يحمل هذا اللقب في حياته، ولكن يبدو أنه راق له فلم يمانع ذلك، وظل يُعرف به حتى الممات. بهذه الطريقة الحضارية، دخلت أسرة "البارون" المجتمع الدمشقي الذي استقبلها برحابة صدر، نظرا لعدم وجود مختصين محليين في علم الموسيقى الغربية يومها.