"موسيقى العقل"، وهو عنوان المعرض الذي يضم أكثر من 200 عمل فني، يعطي صورة شاملة عن الجهد الخلاق الذي بذلته يوكو أونو عبر سبعين سنة من وقوفها في صدارة المشهد الفني المعاصر باعتبارها داعية تحول في الفكر الفني.
يحتوي المعرض على الكثير من أفلام الفيديو التي توزعت ما بين أفلام الأداء الجسدي الذي كانت بطلته، وبين أفلام صوّرتها بنفسها. في النوع الأول نرى أونو وقد طلبت من الجمهور تمزيق ملابسها، وفي النوع الثاني نرى فتاة عارية تتنقل ذبابة بين أجزاء جسدها. في كل أعمالها هنك لمسة شعرية لا تخطئها العين. ذلك ما استلهمته الفنانة من علاقتها بالموسيقى وهي علاقة وثيقة، لا لأنها ارتبطت بفتى البيتلز الذهبي جون لينون فحسب، بل أيضا لأنها أسّست برفقته فرقة "بلاستك" عام 1969. وقد حققت تلك الفرقة نجاحا تجاريا ونقديا حتى عام 1980 حين قُتل لينون على يد أحد المعجبين به.
غير أن أونو تعاملت مع اللغة بطريقة مباشرة منذ بداياتها. في المعرض أعمال تعود إلى عام 1961 تستعمل فيها أونو الكلمات الموحية أو تكتب الأشعار على أوراق صغيرة. وهي في ذلك، سبقت ظهور جماعة "الفن واللغة" في لندن التي أعلنت وجودها عام 1968. وليس مستبعدا أن تكون أعمالها هي مصدر إلهام تلك الجماعة التي لا يزال تأثيرها قائما حتى اليوم وبالأخص في الفن المفاهيمي، وإن كانت بعيدة عن الحروفية العربية التي مالت إلى الجانب الغنائي في الإيقاع المستلهم من جماليات الحرف.
التجريبية
في كل ما فعلته أونو، كانت فنانة تجريبية. لذلك نشاهد في المعرض أعمالا لا يزال في إمكان الزائرين أن يساهموا في إنجازها. في واحد من الأعمال الجدارية، سُمح للزوار أن يرسموا بالطباشير حدود ظلالهم على اللوحة. كما أن هناك عملا نفذته أونو بالمسامير لا يزال في إمكان مشاهديه أن يضيفوا إليه مسامير جديدة، غير أن الأكثر مدعاة للمسرة، أن هناك لوحا وضعته أونو من أجل استقبال قصاصات الآخرين التي يكتبون عليها أمنياتهم من أجل سلام العالم.
لا أعتقد أن هناك مَن سبق الفنانة اليابانية على صعيد اختراع أعمال غير مكتملة، يضطر المتلقي إلى المساهمة لإكمالها كأنه شريك في المكيدة الجمالية. في تلك المكيدة ترنو الفنانة إلى مستقبل أعمالها، فيما يشعر الزوار، وأكثرهم من الشباب، أنهم يستعيدون عالما جميلا. ما رأيته في المعرض من تفاعل شبابي مع تلك الأعمال، إنما يؤكد أن أونو كانت قد سبقت عصرها، بل أنها خططت لتسبق عصرها.
لم تُضع أونو موهبتها بين الفنون فكانت موسيقية بقدر ما فنانة تشكيلية. لذلك ظلّ أسمها حاضرا في مقدمة الفنانين الذين رسخوا الفنون المعاصرة. كانت لديها فكرة عن النقص الذي يعاني منه الإنسان، جسّدها في المعرض عمل مفاهيمي احتوى على نصف كرسي ونصف إبريق ونصف هاتف ونصف حذاء ونصف دولاب ونصف مدفأة ونصف آنية زهور ونصف ساعة حائط، إلى آخره من الأشياء التي لا يظهر منها إلا نصفها، كأن الفنانة أرادت أن تقول "إن حياتنا ما هي إلا نصف حياة".
تقول لجمهورها "اتبعني"
في الكثير من الأعمال، تلجأ يوكو أونو إلى إملاء التعليمات على جمهورها. على سبيل المثل، تطلب منه أن يدوس قطعة قماش وضعت على الأرض، أو أن يكتب أي شيء يخطر في باله على جدران غرفة وضعت فيها قاربا أزرق كبيرا لم ينج من دعوتها تلك. وكانت هناك دائما آلاف القصاصات الصغيرة التي يكتب عليها الجمهور جملا عشوائية يلصقها على الجدار.