أظهرت الأزمة السياسية والاجتماعية المستجدة أو المستأنفة في شأن قضية النازحين السوريين في لبنان الحقائق اللبنانية الراهنة بأكثر صورها سلبية وخطرا. لم تكن هذه الحقائق مخفية لمن يريد أن يراقب الأوضاع اللبنانية أو يفكر فيها، لكن الأزمة حول النازحين السوريين، التي تقدمت مجددا إلى الواجهة، أعادت تجميع كل عناصر المأساة والملهاة اللبنانية وعرضتها على الشاشات ووسائل التواصل وفي تصريحات السياسيين وأحاديث التجمعات والسهرات في بداية "الموسم السياحي" الذي تحول هو أيضا صورة من صور الإعوجاج اللبناني، بعدما أضفي عليه طابع "وطني" بل و"قدسي" كأنه خلاصة "المعجزة اللبنانية" وخشبة الخلاص من الانهيار الاقتصادي. لذلك أصبح أداة رئيسة في يد السلطة للتغطية على الأزمة وفي يد الفئات النافذة سياسيا واقتصاديا لاعادة بناء رأسمالها ولو بأكثر الطرق وقاحة وبشاعة، لكي لا نتحدث عن القانون في دولة فقدت وجه الحق.
فعلى سبيل المثل، وبعدما دخلت المياه إلى قسم الطوارئ في أحد المستشفيات في مدينة جونيه بكسروان (شمال بيروت) وغمرت السيارات في مرأب المستشفى الخارجي، خرج أحد أصحاب المجمعات السياحية في أعالي كسروان، وهو متهم بالتعدي على النهر مما تسبب بفيضانه، خرج ليحتمي بهالة "الموسم السياحي" وليغطي على مخالفاته بالحديث عن تقصير الدولة في دعم "الموسم السياحي"، وكأن على الدولة أن تعدل مجرى النهر بما يناسبه لا أن يزيل هو تعدياته عليه. وبعد "المقاومة"، أصبحت "السياحة" ستارا لتغطية ما لا طاقة للدولة على تغطيته، وإلا نفت نفسها بنفسها، وهي كذلك أصلا.
في حمأة كل هذه الفوضى الهدامة، يحضر ملف النازحين السوريين كنتيجة وتتمة لها قبل أن يكون جزءا منها أو سببا لها، وكمشكلة لا تساهم الحلول المقترحة لها إلا في تعقيدها وتجذرها ومفاقمتها، على نحو يتبدى فيه حل المشكلة مشكلة بذاته وأخطر من المشكلة الأصلية. هكذا جاءت زيارة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين إلى بيروت الخميس الماضي يرافقها الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس لتعيد انتاج المأزق اللبناني مع قضية النازحين السوريين عوض أن تولد انطباعا بإمكان الخروج منه قبل البدء بالخروج منه فعليا. إذ أن هذا الملف بالذات أصبح أكثر الملفات اللبنانية عرضة للتأثير النفسي واللعب بالعواطف والعصبيات إلى حد أن معالجته بدأت تتطلب خلق مناخ نفسي واجتماعي وسياسي يتيح بالقدر الممكن وعي هذه الأزمة وعيا "موضوعيا" خارج الأجندات السياسية والعصبيات الاجتماعية والتاريخية، لكن هذا في حد ذاته يبدو بعيد المنال بل ومستحيلا في ظل المشهد اللبناني الراهن. بالتالي، فإن حل الأزمة بيدو أيضا بعيدا بل ومستحيلا في ظل المشهد السوري واللبناني الراهن، لذلك فإن أولى الخطوات للتعامل معها على نحو يقلل أخطارها هو الاعتراف بأنها أزمة من دون حل. وإذا كان انعدام الحل لهذه الأزمة ينذر بأخطار من كل نوع، فإن الاندفاعة المستجدة لحلها بأبشع الطرق وأكثرها عبثية وفوضى هي أخطر بما لا يقاس.
لقد أعلنت فون ديرلاين في نهاية زيارتها بيروت مساعدات بقيمة مليار يورو على أربع سنوات، لـ"دعم استقرار لبنان، والتعاون الجيد من أجل مكافحة عمليات تهريب اللاجئين انطلاقا من السواحل اللبنانية". بالتالي لم تقل فون ديرلاين أمرا غير متوقع باعتبار أن كلامها ينسجم تماما مع هاجس الهجرة غير الشرعية الذي يقض مضاجع الأوروبيين، خصوصا أن ملف الهجرة يتحول إلى العنوان السياسي الأبرز في أوروبا في ظل الصعود المضطرد لليمين بأنواعه المختلفة، والذي تشكل الهجرة العمود الفقري لخطابه وسياساته. وهذا يُفترض أن يحرج أصحاب نظرية المؤامرة في بيروت الذين يصورون "خطة" الاتحاد الأوروبي للتعامل مع النازحين السوريين في لبنان وكأنها استهداف للبنان بالذات ومؤامرة سوداء عليه، وليست جزءا من سياسات أوروبية عامة.