استكمالا للعلاقة الخلاقة بين الرياضيات وفن السرد، القائمة على التوافق لا التعارض، التناغم لا التنافر، التماهي لا التنافي، كما وقفنا عندها سابقا في نماذج كلاسيكية، في مقال خوارزميات الهمذاني والحريري، نقف عندها هذه المرة، لكن في الرواية مع نماذج حداثية، من خلال ثلاث تجارب مرموقة، توجز هذا المنحى المجازف في التجريب الروائي المؤسس على هندسة رياضية معقدة، نبغت في اجتراحها أسماء فذة من طراز: خوليو كورتاثار (الأرجنتين)، إيتالو كالفينو (إيطاليا)، هاري ماركيوز (أميركا) على سبيل المثل لا الحصر.
"لعبة الحجلة" (1963) لخوليو كورتاثار
يدرك القارئ منذ البداية أنه يلج متاهة تتشابك كغابة، عبر تنبيه المفتتح الذي يقترحه الكاتب كدليل للقراءة، وهو يعتمد خريطة طريق بفرضيتين للاستعمال: قراءة خطية تبدأ من المقطع الأول وتنتهي في المقطع رقم 56، وقراءة خاصة معقدة تبدأ من الفصل 73 فما فوق.
ينقسم المتن السردي الأول الممتد من المقطع الأول إلى المقطع 56 إلى وحدتين: الأولى "من هذه الجهة" تحكي عن مغامرة العيش في باريس، وتمتد حتى المقطع 36. والثانية "من الجهة الأخرى": تحكي عن تجربة العيش في بوينس آيريس، وتمتد حتى المقطع 56.
يدرك القارئ منذ البداية أنه يلج متاهة تتشابك كغابة، عبر تنبيه المفتتح الذي يقترحه الكاتب كدليل للقراءة
أما المتن السردي الموسوم بـ"من جهات أخرى"- فيمتد من المقطع 57 حتى المقطع 155، وهو عبارة عن هوامش لتأملات في فن الكتابة وتعقيبات نقدية واقتباسات من كتب وروايات وقصائد وأفلام وغيرها.
ليس محض اعتباط أن يستهل خوليو كورتاثار روايته بإشارة تنبه إلى أن الكتاب يتكون من كتب عدة، والأمر هنا لا يقف عند حدود الأشكال والطرائق المتنوعة التي يقترحها لقراءة روايته، بل يتعداه إلى الهوية المتعددة والمتشعبة التي يتكون منها العمل كله. فالرواية برمتها تطمح لأن تكون مكتبة، وأثرها مفتوح يؤالف بين أجناس تعبيرية مختلفة. وعلى هذا الأساس، يسافر هذا العمل بطريقته الخاصة في ذاكرة السرد الكوني والموسيقي والفني وما شابه، حتى يكاد يكون جامعا للتخوم المعرفية والإبداعية ومدونا لموجز تاريخها.
تتماهى متاهة الرواية وتصميم دوامتها مع متاهة الخيوط التي حبكها تريلفر في المصح العقلي من حبال، وصارت شكلا عنكبوتيا شائكا، هيأَه كمنظومة دفاعية عندما سيتبارز مع صديقه أوراسيو أوليفير المشكوك في رجاحة عقله. إنها منظومة تتطابق واشتباكات خيوط الرواية نفسها. كذلك فإن الطوابق الثلاثة التي تشكل بناء المصح العقلي، تتماهى والأقسام الثلاثة للرواية- أي طوابقها الحكائية الثلاثة.
الكتاب ككل، يسعى لأن يكون بلا نهاية، يحتكم إلى حلقات دوارة، لا ترسو على جهة، ما يشبه دوامة حكائية، وهنا تكمن خطورته الهندسية. إنه كتاب فخ، يمتص شكل لعبة الحجلة المعروفة بالقفز فوق المربعات، ويستوعبها كتقنية وبنية في اشتغاله السردي، فضلا عن إيراد هذه اللعبة كموضوع وحكاية في القسم الثاني المرتبط بالمصح العقلي. هو كذلك كتاب بهوية متعددة، إذ طرائق كتابته متنوعة وماكرة، فاللعب لا يقتصر على شكله، وإنما يستعمل أدواته أيضا، ومنها ثراء التنوع اللغوي وتعدد زوايا الحكي المضللة وتباين الضمائر، وتقاطع الشعر والسرد وما بعد السرد: الرواية التي تكتب نفسها وتفكر في صور خلقها الفني وتُخلخل أساليب كتابتها. إضافة إلى إيهام النص بالسيرة الذاتية وتخييل الوجود المرتهن إلى الذات والمونولوغات الرقراقة، المتموجة على طول فراسخ الرواية، واستناد أثرها المفتوح إلى الموسيقى والشعر، والتاريخ والسياسة، والهندسة المعمارية والرسم، ونقد العقل والأخلاق وما شابه ذلك.
كل هذا الزخم الحكائي والتقني الذي تنعم به الرواية، توازيه كثافة محتشدة لنصوص أدبية وأسماء كتاب وشعراء وعناوين مؤلفات وشذرات ومقولات يفخخ بها الكاتب السرد دون نية استعراضية أو فولكلورية، إذ تنتصب كعلامات ومرايا في النص، بل يستعملها النص كأدوات فنية، تثري من تشعب الإيحاء وجموح المعنى، فتحيا حياة جديدة في هواء الرواية وتنخرط في زحزحة دالة لأفق مغاير.
زخم داغل وكثافات متناسلة يلحمها نسق رياضي محكم، يجعل منها حقولا مضللة، كما لو شاء لها صانعها أن تكون متاهة على شكل غابة منذورة للتيه المحقق.
"مدن لامرئية" (1972) لإيتالو كالفينو
من بين رُسل امبراطور التتار قبلاي خان الأعظم، يحظى الشاب الفينيسي ماركو بولو بمنزلة خاصة، إذ يزوده تقارير أسفار مثيرة عن مدن عجائبية لا وجود لها على أي خريطة؛ مدن تنتمي إلى أحلامه وخياله فقط.
هذا الأمر يدركه امبراطور التتار ويعيه تماما، لكنه يواصل الإصغاء الى محكيات ماركو بولو المدهشة، في ما يشبه تواطؤا، لأنه مولَع بالألغاز والرموز والأفكار. فمن جهة هو يقيس على مدن رسوله حجم وشكل ووضع إمبراطوريته هو، ومن جهة ثانية يسعى إلى قياس ومعرفة أطلس العالم من صلب تلك المرويات الغريبة، بخلاف المعرفة المتكونة لديه في خرائط الأرض والأمصار التي يمتلكها.
تظل العلاقة بين الرواية والرياضيات فاتنة، ممتعة، ومفاجئة على الدوام، بانصرافها إلى رسم خرائط الألغاز الكبرى واكتشافها
أول ما يسترعي الانتباه في رواية "مدن لا مرئية"، الهندسة المدهشة للمدن المتعددة التي يصفها ماركو بولو كما لو يرسمها بخياله، فتبدو سوريالية وحلمية ولا معقولة وما إلى ذلك، وإن كانت في معظمها تستند إلى حسابات رياضية وفيزيائية دقيقة ومحكمة.
ولأن الكتاب معني بتخطيطات المدن الخيالية وسحرية أشكالها، حتى يكاد يكون دليلا هندسيا للمدن المستقبلية العجيبة، فبناؤه وتدبيره الحكائي لم يجانب نبوغ تلك التخطيطات وبراعة تلك الأشكال، إذ أن الإمعان في طريقة تشييد الوحدات وحبك العناصر وتطريز الأشياء، يفضي إلى اكتشاف خطة متاهية ماكرة اعتمدها الكتاب في صناعته. ويتضح بدقة الملاحظة والتفكيك أن "مدن لا مرئية" رواية ذات هندسة متاهية محكمة في خطة بنيانها، بحسابات رياضية دقيقة، تتماهى أو تتطابق وعلوم هندسة المدن الخيالية الموصوفة ببراعة على يد ماركو بولو.
"سجائر" (1988) لهاري ماركيوز
إمكانات الرواية الهائلة واللانهائية من خلال تطبيق قواعد الرياضيات تتضح في رواية "سجائر" لهاري ماركيوز الذي كان ينتمي الى جماعة "أوليبو" الشهيرة بتجريب هذا النوع من الخوارزميات في كتابة السرد والشعر.
تتعقب الرواية علاقات إنسانية في غاية التعقيد من الثلاثينات إلى الستينات في مدينة نيويورك، عبر 13 شخصية، تتقاطع مصائرهم ضمن شبكة سوداوية من الاحتيالات والمؤامرات في عوالم الفن والمال والجنس، لا تفتأ تأخذ منحى متشظيا حتى تنقلب لتجتمع من جديد، وهكذا دواليك في مسرح ديستوبي تحكمه لعبة رياضية على ركح رقعة شطرنج صاخبة.
تظل العلاقة بين الرواية والرياضيات فاتنة، ممتعة، ومفاجئة على الدوام، بانصرافها إلى رسم خرائط الألغاز الكبرى واكتشافها، أنساق الغموض المذهل، وأشكال معضلة الوجود.