الفن سبيل للتفاعل مع العالم والتأثير فيه

أرى الفن في جانبه غير التجاري وسيلة لمعالجة القضايا الاجتماعية والسياسية بطريقة غير مباشرة. يمكن أن يكون الفن أداة لرفع سوية الوعي ومساءلة الأعراف السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الدينية. ويمكن القيام بذلك في شكل كتابة أو رسم أو نحت أو فيلم وثائقي وما إلى ذلك.

أقيم في قاعة "وايت كيوب" في لندن عام 2017 معرض بعنوان "الطرس" أو "بالمبست"، للفنانة الكولومبية المعاصرة دوريس سالسيدو. كان معرضا مميزا، يبقي العين مفتوحة ويذكّر دوما بما يحدث في العالم من حولنا، وبالخسارة البشرية التي تلحقها المعايير المادية والتعطش الى السلطة. من خلال عملها هذا، تثمن سالسيدو حياة كل فرد أيا كان أصله العرقي. وقد حولت ببساطة قطعا بسيطة من الحجر المعدّ عموما لاستخدامه كأرضيات لهيكل المباني. وبالنقش عليها، غيرت مفهومها تماما، ولم يعد يُنظر إلى الأرضية بوصفها مجرد سطح أرضي يمكنك المشي عليه دون تردد.

بالنسبة إليّ، هذا التجهيز هو فناء مقبرة جماعية يردد صدى صمتها. لكنه على عكس المقابر، يبدو مساحة روحية، حيث يتجول الزوار بهدوء وحذر شديدين، ويحاولون ألا يدوسوا الحجارة. ثمة شعور هائل بالهدوء والاحترام يغلف المكان. تتوقف وتحدق في الكتابات التي يبدو أن بعضها كُتب فوق بعض. الأسماء الباهتة تُستبدل بأسماء جديدة، في حين يخلق ظهور الكلمات المكتوبة بالماء واختفاؤها مرارا إحساسا بالارتباط مع المحيط.

بإدخالها الماء إلى مكان لا ينتمي إليه (مساحة المعرض)، فإن اختيارها المادي للأحجار البيضاء البسيطة المستطيلة المرصوفة في صفوف مستقيمة، يغير إدراك المشاهد ومزاج المكان. هذا الشعور بالارتباط بالضحايا بمجرد قراءة أسمائهم التي تكتب بالماء، يعيد ذكرياتهم المفقودة إلى الحياة. والصمت السائد في المكان، يخلق وقتا كي تتأمل الحضور الغائب لهؤلاء الضحايا. مرة أخرى، أنت مسافر عبر الزمن في حضور إبداعها. تتحدث إليك بعمق، باستخدامها أبسط اختيار للمواد.

طرس الذاكرة

هذه الحالة المتواصلة من التدوين والمحو، تحول مساحة المعرض إلى نصب تذكاري فاعل، وتعيد إلى الأذهان صورة الأرض الآخذة في الإمحاء. كما أن العشوائية التي تظهر بها الأسماء وتختفي، هي بقدر عشوائية البلدان التي هاجروا منها. يحاول الطرس الكشف عن انعدام القدرة على الحزن الجماعي. ويسلط العمل الضوء على الطريقة التي تعمل بها الذاكرة في مجتمع يُدَرَّب على النسيان، حيث كل مأساة تمحو سابقتها.

هذا هو السبب الرئيس الذي جعلني أختار الطرس. فهو يبقي العين مفتوحة على ما يحدث في العالم من حولنا، ويمثل تذكيراا متواصلا به.

ومن خلال عملية التسمية الحرفية، يشير هذا العمل أيضا لا إلى المهاجرين الذين ماتوا فقط، بل يشير أيضا إلى أولئك الذين يعيشون ويحزنون عليهم. وبخلاف أعمالها السابقة، تنظر سالسيدو إلى الكثير من الكوارث الإنسانية العالمية بدلا من التركيز على كولومبيا ومنطقة أميركا الجنوبية. في مقال نشره أندريس هويسن (أستاذ الأدب المقارن في جامعة كولومبيا) يصف العمل: هذا هو طرس الذاكرة نفسها، وهو تجسيد الطبيعة المؤقتة للكتابة والمحو، والطبيعة المؤقتة للذاكرة والنسيان، والطبيعة المؤقتة للحزن الشديد والمتناقص، وحتى الطبيعة المؤقتة لحدث الموت نفسه.

 كان عمل سالسيدو طيلة سنوات عديدة، استجابة للاختفاء المزدوج وردا عليه، لأن جزءا من آلية العنف هو في إخفاء آثار الاختفاء، بحسب سالسيدو.

على مدار العقود الخمسة الماضية، قُتل في كولومبيا ما يزيد على 200 ألف شخص، وهو مجموع ما قتلته القوات المسلحة الحكومية وقوات العصابات الثورية وكارتلات المخدرات والقوات الأميركية. ويعد عمل سالسيدو نفسه شكلا من أشكال الحداد ونوعا من الشاهد والتذكير بالموت، الذي كان من الممكن نسيانه لولا ذلك التذكير.

أوكرانيا وغزة

عند النظر إلى وضع العالم حاليا، وعلى الأخص الحرب في أوكرانيا وغزة، أشعر كفنانة بأني مجبرة على التعبير عن رأيي. سُئلت إن كنت ناشطة، فأجبت بالنفي. أرى نفسي فنانة تشعر بالحاجة إلى التعبير عن بعض القضايا العالمية الأساسية في أعمالها الفنية. هذه هي وسيلتي للتواصل مع العالم وطريقتي في التعبير له عن نفسي على أمل الحصول على نوع من التأثير العام.

يمكن للفن أن يكون أداة تؤثر في الناس بقوة. وفي الفن شعور بالحرية يمكنك من التعبير عن نفسك كما لا يفعل أي شيء آخر. ويمكنك بمقاربة موضوع معين على نحو غير مباشر، أن تثير السؤال في أذهان المشاهدين وتجعلهم يبحثون ويتعمقون أكثر. السياسة موضوع مهمل في عالم الفن، وتبدو عند طرحها مخيفة، خاصة في العالم الغربي. وليس هناك الكثير من المعارض الفنية أو القيمين عليها على استعداد لعرض هذا النوع من الأعمال إلا إذا كنت فنانا من طراز عالمي. فالسياسة ودورها يهيمنان على كل جانب من جوانب مجتمعنا.

لقد شهدت للمرة الأولى تفاعلًا  عاما مع فني، عندما عرضت منحوتتي التي تحمل عنوان "المرأة، الحياة، الحرية"، في حدائق ثيرسك للنحت في شمال يوركشاير في أبريل/نيسان2023. استلهمت هذه القطعة انتفاضة النساء في إيران في خريف عام 2022، بعد الوفاة المفاجئة للشابة مهسا أميني، التي اعتقلتها الشرطة في 16 سبتمبر/أيلول 2022 بسبب ارتدائها الحجاب بشكل غير صحيح. كانت وفاتها الشرارة التي أشعلت النار الكامنة في مجتمع ذكوري يضطهد المرأة ويحرمها من الحرية.

في منحوتاتي، استخدمت الخرسانة، وهي رمز مادي للقوة والدعم التأسيسي في البناء، لتمثيل صمود المرأة. يتكون الشكل التجريدي للقطعة من أشكال عضوية يتوازن بعضها مع بعض لتقف منتصبة، مع عناصر ملونة باللون الأحمر لترمز إلى الحيض والولادة وسفك الدماء. هذا العمل الفني هو انعكاس لتجربتي الشخصية مع الحرب والثورة والقمع.

أهدف من خلال عملي إلى تحدي الانقسامات الناجمة عن الفوارق السياسية والثقافية والدينية وتأثيرها على المجتمع. إن استكشاف اللغة المادية، وارتباطاتها أو انفصالاتها، وصلتها بالموضوع الذي اخترته، هو أمر أساسي في عملي. ولإثراء فهمي وتمثيلي، أتعمق في هذه المواضيع، وأستمد رؤى من اللقطات الوثائقية والمقالات والصور الفوتوغرافية.

أكثر ما ألهمتني به دوريس سالسيدو، هو استخدامها مواد مشحونة بالمعنى لمعالجة القضايا السياسية. مثل سالسيدو، أحول الشيء المألوف إلى شيء غير معروف، ولكن خلافا لعملها، فإن عملي لا يدور حول الذكرى والحزن، بل يدور حول الظلم في ما يحدث الآن. هناك حضور للغائب في أعمال سالسيدو، أما في أعمالي فهناك حضور للحاضر.