هل من الوارد أن تتكون لدينا حركة فنية ناجحة ومبدعة في وجود تحفظات اجتماعية على الموسيقى والتمثيل والتصوير والنحت وغيرها من الفنون؟
الذي أراه أن هذا الموقف حالة استثنائية، وهو الآن لا يمثل إلا القلة، وأغل الناس لديهم انفتاح وقبول بالفن من حيث المبدأ، لكن بطبيعة الحال أتفهم الموقف الرافض للأدب أو الفن الذي يحوي تجديفا، أو تطاولا على العقيدة، أو فيه ابتذال أخلاقي.
لكن الأهم في رأيي أن إبطال الأدب أو التصوير أو الموسيقى لم يعد ممكنا، فالخيار الآن هو تشجيع الفن الراقي، والأدب الجميل، والموسيقى التي تنقي الروح، في مقابل النماذج الهابطة أو المسيئة.
• عرفت المساحة الثقافية السعودية لسنوات خلت معركة صاخبة بين أهل الحداثة وخصومهم، واليوم نقرأ اعترافات الحداثيين بإخفاق حركتهم، برأيك لماذا أخفقت الحداثة في السعودية؟
الواقع أن حركة الحداثة في السعودية كانت حركة ثقافية مبشرة، وجيدة، وكانت ستأخذ الثقافة المحلية، والشعر خصوصا، إلى آفاق عظيمة، فالشعر حداثة، والشعر غير الحداثي شعر ميت، لأنه في هذه الحالة شعر قيل من قبل، وبالتالي لا داعي لقوله، وكلامي هنا على مستوى الفكرة والمعنى والصورة لا على مستوى الشكل الشعري.
إنما للأسف حوربت هذه الحركة مع بروز حضورها الصحافي، واستخدم خصومها كل الأسلحة المشروعة، وغير المشروعة، مثل المزايدة على الدين والوطن والأصالة، وفي الجانب الآخر أعتقد أن الحداثيين ارتكبوا أخطاء جعلت إسقاط حركتهم ممكنا، وسهلا، خصوصا عدما اتجه بعضهم لإثارة حساسيات دينية، أو حساسيات أخلاقية، وأتصور أنه كان بوسعهم تفادي هذه الأخطار لحماية منجزهم الثقافي الجيد.
الأمير بدر بن عبد المحسن
وفي تقديري لو أن الحداثة لم تحارب، ولو أن الحداثيين كانوا يحسبون خطواتهم بشكل أذكى لكان تأسس لدينا مناخ ثقافي أفضل، ولكان لدينا اليوم حركة شعرية رائدة على مستوى المنطقة كلها.
• إطلاق مركز للحوار الوطني، وجمعيتين لحقوق الإنسان، وجمعية للفنون التشكيلية، ومعارض جريئة للكتاب، وإعادة تشكيل الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون، ملامح تعكس خطوات هدفت لإحداث حالة من الانفتاح الثقافي في السعودية خلال السنوات الأخيرة، كيف ترى هذه الخطوات؟
بالقياس إلى الفترة الزمنية القصيرة، والتي لا تتجاوز سنوات قليلة، أرى أنها خطوات واسعة، وحقيقة ما أطلقه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز من مبادرات في مجال الفكر والثقافة، كانت مبادرات ضرورية أولا، وثانيا كانت مصممة بشكل مدروس يراعي ضوابط أساسية، ولولا ذلك ربما وصلت الأمور إلى الانفلات والتنافر والتصادم، وأعتقد أن هذا المشروع الثقافي جاد وطموح، وسيصل يوما ما إلى تحقيق نتائج مميزة.
• ما رؤيتك حيال ما أفرزه بعض المحاولات الانفتاحية من مواجهات من جانب متحفظين، تطورت إلى محاولات إلغاء الآخر أو خنق صوته؟
أنا أشعر إزاء ذلك بأسف عميق، إذا كان الإنسان مسلما، وعقيدته سليمة، وعلمه واسعا، فلماذا لا يستطيع أن يقنع مخالفيه إلا بالصوت العالي، أو بالضرب، فأنا أرى أن الإنسان لا يتجه إلى ممارسة الإلغاء تجاه الآخرين إلا إذا كانت حجته ضعيفة.
التطرف الديني
• في الإطار ذاته، ما هي قراءتك لموجة التطرف الديني، وتجليها العنيف في شكل الإرهاب؟
لا شك أن رفض الإرهاب هو موقف مبدئي، وأن فعل الإرهاب انحياز ضد الإنسان والوطن، وأن منحه مبررا دينيا هو أشد إساءة يمكن أن توجه إلى الإسلام، وأنا أتفهم حالة الإحباط والغضب والسخط تجاه الظلم والجور والعدوان في العالم العربي، وأتفهم حاجة بعض الشباب للتعبير عن موقفهم واحتجاجهم، ورغبتهم في مقاومة أي عدوان، ولكن المشكلة ليست في الشعار بقدر ما هي في طبيعة الفهم، وفي طبيعة الوسائل التي يتم استعمالها، فمثلا ما قيمة اختطاف منظمة لشخص أو اثنين من عدو مقابل مقتل المئات من شعبها، وتدمير اقتصاده.
والمأساة هي في سؤال الأخلاق، هل نحن نمارس أخلاق الإسلام؟ أين الفروسية والنبل والحلم والشجاعة، أين المسلم الذي يسلم المسلمون من لسانه ويده، وأين المسلم الذي لا يقطع شجرة في أرض من يحاربه، أنا لا أرى سببا لأن يتنازل المسلم عن أخلاق الإسلام فيقتل النساء والأطفال ويدمر الممتلكات ويعتدي على أهله وبلاده.
ثم أنا لا أفهم لماذا هذا التناقض؟ كيف ندعو الناس إلى الإسلام ومنا من يستبيح قتلهم؟ كيف نتوقع أنهم يمكن أن يقبلوا حتى التعايش معنا، فضلا عن قبولهم الدخول في ديننا، ومنا من يعلن أن لا عصمة لدمائهم ولا لأموالهم.
وأنا أستغرب من اجتهادات فقهية تضيق الإسلام، فبدل دعوة من هو خارج الإسلام، أصبحت هذه الاجتهادات تخرج كثير من المسلمين من الدين، وعلى كل حال أنا أقبل بأي اجتهاد طالما بقي في إطار الرأي، لكن عندما تصل الأمور إلى التكفير بغير موجب، وإلى الحوار بالسلاح فلا تعود المسألة مجرد رأي أو اجتهاد.
• على ذكر التطرف الديني، هل تخشى من تصدير النزاع الطائفي في العراق إلى خارجه؟
أنا لا أعتقد أن ما يحدث في العراق هو نزاع طائفي، وإنما النزاع الطائفي مجرد ستار يخفي نزاعا على السلطة، ربما تستخدم الطائفية فيه ذريعة لجذب الأنصار، ولكن لا أرى أن ثمة نزاعا على أساس طائفي، ولذلك لا أخشى من تصدير هذا النزاع الطائفي، لأنه غير موجود.
الابتعاد والاعتزال
• في المحور الأخير، سؤالي هو لماذا ابتعدت عن الساحة الشعرية؟
- انقطعت عمدا في السنوات الأخيرة، وهي تجربة مهمة جدا لي، فقد أصبح تواجد الأديب والفنان والاهتمام به وتكريمه مرتبطا بعلاقاته العامة، وأتذكر كيف رأيت في مصر الشاعر الكبير أحمد رامي قبل وفاته بسنة أو سنتين حيث كان مكتئبا، مغلقا عليه بابه ومعتزلا ومنسيا، بعد أن أفنى حياته في الشعر، وسبق أن رأيته قبلها بسنوات يوم كان محاطا بالاهتمام، كان وقتها مرحا ومتوهجا، مثل هذه الذكرى تثير في نفسي إحساسا مؤلما جدا، أن تمضي سنوات طويلة تبدع وتساهم في إسعاد الملايين ثم تنتهي مهملا، أوشك أن أقول إن عبدالحليم حافظ كان محظوظا لأنه مات في عز نجاحه، وأرى أن انقطاعي هذا يطرح السؤال: هل ما قدمته عبر سنوات كان عملا جيدا أم لا، هذا ما يجعلني ربما أنسحب بهدوء كي أترك قبل أن أُترك.
• ولكن ألا ترى أنك حصلت على الكثير من التقدير- المستحق- الذي يجعل هذا الإحساس غير متوقع من شاعر يملك نجاحك؟
أعتقد أن حتى من يقول إن بدر بن عبد المحسن حصل على أكثر مما يستحق لا يظلمني، لكنني في النهاية إنسان ومن الشجاعة أن أعترف بأن الإنسان لا يكتفي، ولذلك أشعر أن بدر يستحق أكثر بكثير مما حصل عليه، إنما الحقيقة التي ستبقى ستكون للتاريخ الذي سيحكم لي أو عليّ.