شكّل المخيم ملاذا مؤقتا للفلسطينيين الذين نزحوا من مخيم نهر البارد الواقع على مسافة 12 كيلومترا فقط شمالا، وذلك على إثر المواجهات الدامية بين الجيش اللبناني وجماعة "فتح الاسلام" المتطرفة عام 2007، وتسبّبت بحسب "الأونروا" بدمار 95% من المخيم، ولجوء نحو 15,000 فلسطيني إلى مخيم البداوي.
تؤكد نوال ضغط اللجوء السوري على المخيم، وتتدارك "بعض أهالينا استغلّ السوريين ورفع إيجار العقارات، فاشتد الخناق على الجميع، خاصة أنّ الفلسطينيّ ممنوع من التملك في لبنان".
نرافق نوال إلى بيتها، تحضّر الطعام لابنها الذي سيعود الى الغربة. ستزوّده "المطبق"، وهو خبز فلسطيني من طبقات العجين، تتخلّلها خلطة الصعتر والسماق والبصل وعصير الليمون.
مخيم نهر البارد
منذ عام 2007، لا تزال أم هالة ترمم دار حماتها في مخيم نهر البارد، بعد دماره خلال المعارك العنيفة التي دارت بين الجيش اللبناني و"فتح الاسلام"، وشرّدت 27,000 لاجئ، وجعلت المخيم أثرا بعد عين.
ما قبل الحرب ليس كما بعدها. انقطع تقريبا الشريان التجاري بين المخيم وجواره وصولا الى طرابلس، وصار يضمّ "الكم القديم" و"الكم الجديد"، على رفات شواهد ومعالم حفرت عميقا في ذاكرة اللاجئين، ومعظم هؤلاء من شمال فلسطين، فحملت الأحياء أسماء قراهم، صفورية وسعسع والدامون والسموع وعمقا...
نحن على مسافة 16 كيلومترا من طرابلس شمالا، نجاور الحدود اللبنانية-السورية. يسري التشديد الأمني من قبل الجيش اللبناني. يطلب العناصر بلطف إبراز الهويات والتصاريح، وقد يلجأ الى التفتيش.
مخيم نهر البارد، شمال لبنان
ضمن هذا المجال الطولي الموازي للأوتوستراد الدولي، وغربه البحر، تنعزل يوميات لاجئين فلسطينيين. التغريبة معطوفة على "التطرف" الذي رسم ملامح المكان، في الجغرافيا والأمن والأوجاع.
قوارب الموت
يقفل بسام واجهة دكانه ويتوجه إلى حديقة الدار، تنتظره زوجته هالة وأمّها. تتداعى ذاكرته المشحونة بالغائبين، فيستحضر مع رفيقه رامي رفاق الصف الذين قضوا في "قوارب الموت".
"يا زلمة، كأنّ الكون لا يريدنا. عدّد معي: أسامة، نافذ، جلال...".
يتابع رامي: "قضينا ذلك الأسبوع على الحدود، ننقل الجثث التي لفظها البحر إلى طرطوس ونرسل الإسعافات. هناك جثة انفجرت، وأخرى لم نصلّ عليها بسبب الرائحة".
يذكّر اسم رفيقهما أسامة بمأساة "قارب الموت" الذي غرق في 21 سبتمبر/أيلول 2022. كان أسامة حسن القبطان الذي غرق مع زوجته وأطفاله الأربعة، خلال إبحارهم نحو إيطاليا ومعهم مهاجرون غير نظاميين من لبنانيين وسوريين وفلسطينيين، ناهز عددهم 150 شخصا، عثر على 100 جثة منهم.
أسفرت الحادثة عن أعلى حصيلة قتلى منذ تجدد الهجرة غير النظامية عبر شواطئ لبنان الشمالية في عام 2015، متشابكة مع اللجوء السوري، وتكثفت خلال السنوات الأخيرة بسبب الانهيار الاقتصادي.
يشكّل مخيم "نهر البارد" منصّة للمهرّبين الذين يراكمون ثروات عبر البحر، مستغلين يأس اللاجئين ولبنانيين مفقرين، لقاء مبالغ تتخطى ألفي دولار للشخص.
تتلاحق القوارب والمآتم على مرأى أطفال بسام وهالة الثلاثة، صائب وآدم وكريم. يروي الأب كيف تسلل أولاده إلى الشاطئ، نفخوا قاربا مطاطيا وركبوه. شاهدتهم الجارة على مسافة 20 مترا في البحر وأعادتهم إلى أهلهم. أخبروهم أنهم كانوا مسافرين إلى ألمانيا، وأنّ أمّهم ستلحق بهم.
الدولة الواحدة
في 16 سبتمبر/أيلول 1982، وقعت مجزرة "صبرا وشاتيلا"، وفقد بسام أباه وأخويه وأخته. العائلة لاجئة في مخيم "نهر البارد"، لكن انخراط الأب في السياسة رتّب تلك الأقدار، وكان بسام طفلا في الثالثة من عمره.
يقول: "كل لحظة أعيشها هي ثمن لنكبة 1948. غزة تكثيف لقدرنا. شعبنا يقف على شاطئ البحر ينتظر المساعدات، والأدهى أنها تهبط على رؤوسهم وتقتلهم".
يتابع: "غزة كشفت، عرّت، غربلت العالم. أواكب الأحداث كأنني أقرأ العهد الجديد لأقدار الفلسطينيين، ولنظرتنا الى الحياة. جلّ همّي اليوم أن أتفقد أطفالي في أسرّتهم، وأطمئن أنّهم يتنفسون. الناس كلها تعبت. حرب، حرب، حرب... لنتذكر يوما واحدا لم يُقتل فيه فلسطيني منذ حرب غزة في عام 2014".
الحل، في رأيه، هو "الدولة الواحدة. هناك نموذج جنوب أفريقيا، ومليونا فلسطيني يعيشون في دولة إسرائيل. وإن لم يحكمنا الإسرائيلي، فلتأت الأمم المتحدة وتحكمنا".