مرت جماعة الإخوان بتحولات كبرى في تاريخها، وكان السجن مصدرا لكثير من أفكارهم، سواء في التطرف، ككتاب سيد قطب "معالم في الطريق"، أو في إعلان التراجع عنه. فقدمت "الجماعة الإسلامية" في مصر مراجعاتها عام 1997، كذلك جماعة "الجهاد" المصرية، ومنظرها الشهير سيد إمام الشريف، صاحب أهم كتابين في التيارات الإرهابية: "العمدة في إعداد العدة"، و"الجامع في طلب العلم الشريف"، وقدم مراجعاته في ورقة عرفت باسم "ترشيد العمل الجهادي"، مما دفع أيمن الظواهري للرد عليه في رسالة مفردة بعنوان "التبرئة".
هذه المراجعات المعلنة لم تمنع رموز من تراجعوا، مثل عبود الزمر، من الاحتفاء بجماعة "الإخوان" لاحقا، وظهر سيد إمام الشريف في عدة مقابلات تلفزيونية بعد تراجعاته، ظهرت فيها حقيقة أنه يتربص بالمجتمعات العربية والإسلامية، ويتحين الفرصة، فدار كلامه حول القدرة والعجز، والإمكانيات، والنتائج، ليس في الحديث عن صحة تلك الأفكار وزيفها تأصيلا- بل هو مغالٍ في التكفير الشامل الذي وصل إلى الشعوب، ويقول إن مصر والدول العربية ديار كفر- وإنما في اعتراضه على التطبيقات المتسرعة من التنظيمات المسلحة وليس على الأفكار نفسها. وتلك الجماعات إخوانية الفكر، ولا يغير تعدد أسمائها التنظيمية من حقيقة أن أساس أفكارها اعتمد على تنظيرات جماعة "الإخوان"، وسرديتها للتاريخ وقراءتها للواقع الاجتماعي والسياسي.
المراجعات المعلنة لم تمنع رموز من تراجعوا، مثل عبود الزمر، من الاحتفاء بجماعة "الإخوان" لاحقا
بل لا ينسى المراقبون ظهور أبي محمد المقدسي المنظر المتطرف المعروف على قناة "رؤيا" الأردنية عام 2015 وإعلانه التبرؤ من أفعال "داعش"، رغم أنه هو نفسه الذي غذى هذا التوجه، ولم يتراجع عن أفكاره، إنما كان خلافه تكتيكيا مع التنظيم الذي أسسه تلميذه الزرقاوي، وليس في الوارد رفض توبة أحدٍ من سابق جرم ارتكبه، فباب التوبة مفتوح بين العبد وربه، لكن الحديث عن مصداقية تلك المراجعات، فيما بينهم وبين الناس والمجتمع والقانون، وهي التي امتد تأثيرها إلى كثير من الرموز الإخوانية، فحرص القرضاوي مثلا على تعديل الخطاب الإخواني قبل التحركات الثورية في المنطقة العربية عام 2011. حيث قدم دعاية نجحت في خداع كثير من الناس، فصور نفسه على أنه منادٍ بالوسطية والاعتدال، ونبذ الطائفية، وقال عن أفكار سيد قطب إنها تحمل آراء الخوارج، وأنه إنما يطالب بحكم مدني، فغاب مصطلح "أهل الذمة" في خطابه، مستبدلا إياه بـ"المواطنة"، وقدم كتابا بعنوان "خطابنا في عصر العولمة"، دعا فيه إلى الامتناع عن إطلاق وصف "الكفار" على "غير المسلمين" من الأديان الأخرى، والاكتفاء بقول إنهم غير مسلمين، وترحم على بابا الفاتيكان حين مات، لكن ما إن بدأت الثورات التي عرفت باسم "الربيع العربي" حتى اختلف خطابه تماما.
وهكذا فإن تلك المراجعات المعلنة ابنة مرحلة ضعف الجماعة، لا مرحلة التمكين كما يحبون تسميتها، وقد واجهت جماعة "الإخوان" نفسها الجماعات المسلحة أحيانا في خطابها، وأعلنت في مراحل من تاريخها أنها ضد مناهجهم، وأنها تنبذ العنف المسلح والخروج على الدولة، كما فعلت في مصر في السبعينات، والثمانينات، لكن هذا لم يكن من باب الرفض المنهجي لأفكار تلك الجماعات، بل لخروجها عن التبعية للجماعة الأم، فأثبتت الأيام أن الجماعة إنما تريد احتواء تلك التنظيمات، فتكون كلمتها هي العليا عليها، لتبتز الحكومات والمجتمعات، فهي التي تحدد متى تحركها ومتى تكبح جماحها، فما إن جاء عام 2011 حتى دعت الجماعة إلى مواجهة الدول العربية وإسقاط الأنظمة، ولو بالسلاح!
لن تستطيع أن تأكل الكعك وتحتفظ به، ولن تستطيع أن تبقى مرشدا مع "الإخوان" وضدهم
لكن هذه اللعبة لم تعد تنطلي على الكثيرين، ولم تمنع من تصنيف الجماعة في عدد من الدول ومنها السعودية على أنها جماعة إرهابية، مما يدفع إلى استحضار المصداقية الزائفة في الخطابات المعلنة من الجماعة ورموزها، ومن ثبت عليه أنه اختلس أموال أحد البنوك، هل يمكن أن يجد الوظيفة نفسها في بنك آخر؟ ومن كانت له سابقة طويلة في التنظير الممنهج لتلك الأفكار، ثم قلب ظهر المجن لرفاق دربه القدماء، فصار يصور نفسه على أنه خبير في التحذير من الأفكار المتطرفة، بل قدم نفسه على أنه هو الذي سيأتي بجديد لم يسبق إليه في التفطن للثغرات المنهجية عند جماعة "الإخوان" ومن تفرع عنها من جماعات العنف السياسي، هل يمكن أن يقبل منه المجتمع هذا التصدر، والبقاء على عرش التنظير والإرشاد؟
إن سنوات طويلة من البقاء في تلك المناهج تمنع من مصداقية التراجع المزعوم، فقد جاء في مرحلة ضعف لا قوة للجماعة، وتلك المراجعات أشبه ما تكون بالقفز من السفينة التي تغرق، لا كبديل عن الأفكار السابقة، وإن كان شيء من تلك المراجعات حدث بحق لأفرادها، فهم غير صالحين للبقاء في مقاعدهم المعنوية في المجتمعات، فمن أدخل المجتمعات في دوامة من التطرف والإرهاب بسبب خطابه السابق، لن يكون معالجا لجذور تلك الظاهرة، بل قصارى ما عنده أن يعتزل المشهد، فلن تستطيع أن تأكل الكعك وتحتفظ به، ولن تستطيع أن تبقى مرشدا في الحالين، مع "الإخوان" وضدهم!