بات المفكر والناقد الدكتور عبدالله الغذامي اليوم مؤقتا مهما لرواد منصة "إكس"، ومحمولا على "الثامنة حدّي". لربما لم يتوقع ولو للحظة أن فضاء "إكس" سيجعل منه توقيتا خليجيا شهيرا ثبت على ميعاده لأعوام ولا يزال، ليغدو أيقونة زمنية لا تقلّ قيمتها عند من يتابع حراكه ونقده الثقافي عن قيمة ساعة "بيغ بن" اللندنية.
إنها ساعة الغذامي الذي جاء بها عندما عرف قيمة العمر، ورسم خرائطه الذهنية واستعد لمواجهتها نقديا وفكريا وسيميولوجيا. واليوم أتساءل كغيري: ترى ما الذي يبنيه من عوالم في ما تبقى من يومه؟ وأين يقضي ذلك المتسع؟ أيخلد إلى فراشه باكرا فور وصوله الى حدّه الائتماني من الوقت وهو عاشق الشتاء، أم إلى مكتبته العريقة التي تمده بإكسير حياته المليئة برحلات الإبداع، وفتوحات العارفين، وإيوان المسامرات، ودواوين الدعوات المعمّرة في ذاكرة مسيرته؟
الغذامي ليس رمزا ثقافيا سعوديا وعربيا فحسب، بل مفكر من خامة نادرة ندرة مشروعه والتزامه، وغاياته، ومدركاته الخاصة به. إنه مختلف في التقاطاته التأليفية، والنقدية، والمجتمعية. ناقد وعى أن الحياة تركض بأسرع ما عندها لتغير أنماطه، وعليه الركض معها في تضاد أو تواز ليوقفها عند حدها، ويعلمها أنه سيرتب يومه وعمره كما يحلو له، وليس لأحد عنده شيء. متتبع أحوال المتابعين من حوله باختلافاتهم، ومشاداتهم، ومناوشاتهم، سيجد أن الجمهور بأكمله يحمله كما لو أنه الساعة التي إن غابت سيظل هو توقيتها المهم، ومشهدها الأهم.
إن يكن التزام الغذامي كمفكر بتوقيت "حدّي الثامنة" الذي عرفه عنه متابعوه ومحبوه، فإنه بالنسبة إلي أبعد من ذلك.. إنها ساعة التزام وساعة تنبيه، والثانية هي التي تهمني هنا أكثر من الأولى، وإليها أنسب هذه المقالة، وإلى ما بعد الصحوة وتحولاتها.
أتخيل اليوم بعد مرور عقد تام على صدور كتابه، "ما بعد الصحوة: تحولات الخطاب من التفرد إلى التعدد"، أن الغذامي كان يستيقظ مبكرا أيام عمله على مشروع نقده الثقافي للصحوة ليوقظنا معه. وإنه لأحد أهم الاستيقاظات الثقافية التي قدم لنا من خلالها نقده الممسوس بفكره ويقظته النقدية. يا لها من موجات صحوية كادت أن تغرق سفنا ومراكب كثيرة.
لطالما عشنا قبلها، حالنا حال الأمم، لم نتدخل في نيات الناس، ولا أسأنا الظن فيهم، ولا تذوقنا لحوم العلماء لنحكم على مذاقها، ولا دسسنا سما لأحد في عسل وقدمناه اليه، إلى أن جاءتنا حشود الصحوة الممنهجة وسمّها الزعاف فقلبت حياتنا وغيرت عباراتنا وتفاصيلنا اليومية وباعدت الشقة بيننا وبين مجتمعاتنا.
ولو أردنا اليوم قياس حجم المؤثرات التي عشناها وبلغنا أنفاقها قبل هذا الكتاب وغيره من الكتب التي تناولت الصحوة وعلاماتها ومصطلحاتها وأهدافها، لعرفنا حجم الأخطار التي كانت ترتدي ثيابنا وتتحدث لغتنا لتؤذينا، ولتخلق داخلنا اليوم سؤالها الكبير والمهم: كمْ كان سيكون وبالها لو أنها أخذت في الاستمرارية وترسيخ مفهوم التبعية اللفظية والهيمنة الفكرية والثقافية؟
أيها المشرّعون الصحويون المتلونون، الأجداد منهم والأحفاد، أيها المتشددون الدمويون الذين سقتم أجيالنا إلى أنفاقكم المعتمة، لقد أحرقتمونا بالوعيد قبل يوم الحساب، وأركنتمونا إلى عزلة عالمية لم نكن خلالها نعلم مصيرنا ولا مآلنا لو أنكم أطلتم تضليلنا ورهنا عند فكركم الآثم قبل أن تُفكك شفراتكم، وألغامكم الفكرية.
يمكننا القول إن مشروع الغذامي يتربع اليوم على عرش المنبه التوعوي، وفوق بندول النقد الثقافي
قرأت أقوالا وآراء تمنت لو أنّ الغذامي اختار في كتابه بعضا من كتب ومؤلفات الصحويين ونقدها بعينها أو حللها بدلا من علاماتهم وإشاراتهم. ومع ما قالوه، إلا إنني أرى أن علامات الصحويين أشد ضررا وخطرا من مؤلفاتهم، لأن المجتمعات ليست قارئة بأكملها، ولكن معظمها سماعية، ومتوارثة لما سمعت. ثم إن بعض السماعي أشد تأثيرا وفتكا من القرائي في جميع العصور والأجيال. لهذا كان يقول فلان منهم جملة واحدة في الشرق لتصل الجنوب أسرع من البرق على الرغم من فقر الوسائل في زمنهم ذاك.
يمكننا القول إن مشروع الغذامي يتربع اليوم على عرش المنبه التوعوي، وفوق بندول النقد الثقافي في مشهدنا، مؤكدا للجميع أنه فتح جرحا غائرا ووجد داخله الكثير من العلامات والعبارات والسموم عجز عن إيجادها متجاهلو سيميولوجيا الصحويين على حساب كتبهم ونصوصهم ورسائلهم وأهدافهم الفتاكة.