بول أوستر... فانتازيا الواقع والعزلة التي تخترق الوجودhttps://www.majalla.com/node/315986/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A8%D9%88%D9%84-%D8%A3%D9%88%D8%B3%D8%AA%D8%B1-%D9%81%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%A7%D8%B2%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%A7%D9%82%D8%B9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B2%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D8%AA%D8%AE%D8%AA%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%88%D8%AF
يعدّ بول أوستر الذي رحل عن عالمنا في 30 ابريل/ نيسان عن 77 عاما متأثرا بمرض السرطان الذي شخّصت إصابته به في 2022، إحدى آخر الشخصيات التي تتسم بتعددية ثقافية وإنتاجية لافتة في مجالات الشعر والرواية والسينما والبحث الفكري. أعماله التي تصل إلى 34 أثرا، ترجمت إلى 40 لغة وعرفت انتشارا واسعا بات معه أحد أبرز المؤثرين في الثقافة العالمية. إذ تعكس الرحابة المعرفية التي تسم نتاجه، رغبة في فهم الضيق الكبير الذي يجتاح مسارات الحياة المعاصرة ويفتتها ويحولها إلى وهم غير قابل للنمو والاكتمال.
تتأسّس أعمال أوستر على الضبابي والافتراضي وانعدام الاكتمال، والمسارات التي تسلكها شخصياته لا تفضي إلى مصائر واضحة بل إلى احتمالات مفتوحة وخيارات غير قابلة للتحديد، فتبدو مع انغماسها العميق في الحياة ومشاغلها أقرب إلى الكائنات الخيالية.
تصنيفات ملتبسة
كسر حدود السرد وشروطه والخروج على مألوف بناء العمل الروائي، عمّقا الالتباسات التي تتناول أعمال أوستر وصعّبا تصنيفها. فلطالما وصفت "ثلاثية نيويورك" التي تعد أشهر أعماله بأنها ذات حبكة بوليسية، كما عدّ أبرز صوت في الأدب الما بعد حداثي.
المسارات التي تسلكها شخصياته لا تفضي إلى مصائر واضحة بل إلى احتمالات مفتوحة وخيارات غير قابلة للتحديد
توصيفات غزيرة حرصت على قراءته انطلاقا من محدّدات لا تنسجم مع طبيعة مشروعه الذي لا يدافع عن أي نظرية ولا يخضع لأي من التصنيفات، بل تجد فيه مجموعة من الأساليب المختلفة والمتناقضة التي قد تستعمل خصائص تنتمي إلى فن معين أو إلى منهج ما، لكنها تعمل في الآن نفسه على تفكيكها وجرّها إلى ما لا تحتمله، حيث لا يمكن التعرف لإليها مباشرة ولكنها لا تختفي في الآن نفسه.
البوليسية على سبيل المثل، تظهر في "ثلاثية نيويورك" على مستوى الجو وحسب، بمعنى أنها ليست سوى الديكور الذي يغلف الحدث ولا يصنعه. أما البناء العام والحركة اللذان تتجه إليهما الرواية، فيكسران انتظام البنية البوليسية ويذهبان بها إلى حدود الرمزية ويغرقانها في الغموض والحركة الارتدادية التي تنطلق من بؤرة مركزية بالغة الصغر، هي الملاحقة الدؤوبة لحياة الآخرين إثر مصادفات تدفع بالشخصيات الى السير في هذا الدرب: اتصال خاطئ من رجل مهدد بالقتل (مدينة الزجاج)، التوكيل بمهمة مراقبة شخص (الأشباح)، ظهور زوجة صديق قديم مع خبر اختفاء غامض ووصية بنشر أعمال أدبية (الغرفة الموصدة).
تلتقي مصائر كل الشخصيات في مفهوم السكن في حياة الشخص الملاحق، فالملاحقة المحمومة لتفاصيل الشخصية المراقبة، تجعلها تحتل كامل حياة من يقومون بفعل الملاحقة، فتنتفي تاليا حياتهم الخاصة ويتحولون إلى ذلك الكائن الآخر.
لا يبدو مفهوما وصف هذه الثلاثية بالبوليسية على الرغم من اللعب الذي يقوم به الكاتب على الأجواء البوليسية ومنطق تركيب الحبكة والأجواء، لكنها تذهب في اتجاه مغاير تماما وتطرح مبكرا مسألة العزلة والمراقبة المستمرة قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي التي خلقت عالم التواصل الفائق والدائم، الذي جعل الناس على الدوام يعيشون حيوات الآخرين معتقدين أنهم يوسّعون دائرة وجودهم ومجالاتهم بينما يرتدّون في الحقيقة إلى العزلة الرهيبة والانقطاع عن العيش.
استشرف أوستر مبكرا أمراض العيش المعاصر في الوقت الذي شرعت فيه بالظهور إرهاصات النمو الفائق للتكنولوجيا، مع نشر الرواية عام 1987، فالعالم الافتراضي الذي طبع حياتنا المعاصر كان قد سبق أن رُصد في عالمه الذي يلاحق الحيوات الفاقدة التمركز والثبات والخصوصية.
تجارب سينمائية
"كنت دوما مجنونا بالأفلام منذ طفولتي المبكرة"، صرح أوستر في عام 2011، واصفا علاقته بالسينما التي قاربها تمثيلا وإخراجا وكتابة سيناريو ونقل إليها عوالم الحزن والقسوة والخيارات المستحيلة واستحالة ضبط مسارات الحياة واللا متوقع والطبقات المختلفة والمتناقضة التي تنبثق من فعل أو نزوع يبدو للوهلة الأولى غير آيل لتوليد احتمالات عديدة، لكنه سرعان ما يدخل في حالة التشظي وانعدام التمركز.
استشرف أوستر مبكرا أمراض العيش المعاصر في الوقت الذي شرعت فيه بالظهور إرهاصات النمو الفائق للتكنولوجيا
شخصيات بول أوستر السينمائية تسائل الحياة والسينما نفسها ولا تلتزم القواعد المعيارية لهذا الفن استجابة لموقفه الذي ينادي بانعدام القواعد، ما صنع سينما إشكالية.
حرص النقاد على تصنيف أفلامه بأنها تقع ضمن منطق الفيلم الأسود الذي يتناول مواضيع حافلة بالمرارة والألم، والفقد، ولكن قد يصعب انطباق السمات العامة المسيطرة في هذا النوع من الأفلام على ما قدّمه أوستر، إذ تحضر الثيمات بشكل عام لكنها لا تمثل الأغراض نفسها التي تذهب إليها الأفلام التي تنتمي بشكل مباشر الى ذلك النوع. أفلامه بلا خلاصات واضحة وتعمل على تثبيت الأحوال الجدلية والغامضة كمنطق عام لا يفضي إلى أمر آخر أو يحيل على معان من خارجه.
الألم والحزن والغرق في الأحوال المستعصية والبحث في صناعة الأفلام والأبوة والقلق الدائم والخوف، كل هذه الثيمات تتحرك لتصف نفسها حيث لا تكون الشخصيات سوى مسرح ألعابها وحيلها. لا ألم تطهيريا ولا اكتشافات ومصالحات مع الأقدار أو نهايات حاسمة. فعلى غرار المناخ المسيطر في رواياته، تظهر السينما التي ينتمي إليها أوستر بوصفها سؤالا حول قدرة السينما على تقديم تعبير بصري عن أحوال تجري في الداخل وقد تكون مهدّدة بالذوبان حين تمسك بها الكاميرا.
قياسا على إيمانه بانعدام الحدود، يمكن القول إن منطق السينما الذي يتبناه، يسعى إلى توظيف كل عناصر العمل السينمائي لتوكيد البنية الاحتمالية المفتوحة وغير القابلة للتعيين. يخشى على غرق العمل في اكتماله، فكما هي الحال في الرواية المنجزة التي تصبح أسيرة اكتمالها الذي يدرجها في سياق مغلق لناحية القراءة والتأويل ويبقى محدودا مهما اتسع، فإن الحال في الفيلم لا تغادر عموما هذه المنطقة.
من هنا، فإن أوستر وكما سعى ليكون العمل الروائي مكتملا في دلالته على النقصان وانعدام التمركز، وأن يكون مدخلا إلى عالم الاحتمالات اللامتناهية، فإنه في تجربته السينمائية يحاول أن يبث الأمر نفسه، وكأنه يقول للمشاهد إن ما يحدث أمامك على الشاشة لا يقول إلا احتمالا واحدا أو احتمالات عدة، وعليك تركيب الاحتمالات اللامتناهية الممكنة.
في الفيلم المأخوذ عن روايته "موسيقى الصدفة" الصادرة عام 1990، قدم المخرج فيليب هاس عام 1993 فيلما عن المقامرة والخداع والمصائر الكارثية، من بطولة جيمس سبايدر وماندي باتينكن، وقد اتهم الفيلم بالسطحية وانعدام الانسجام بين الاخراج وأسلوب أوستر، وأنه ضعيف في بنيته السينمائية العامة.
بعد ذلك، خاض أوستر تجربة الإخراج المشترك مع وين وانغ حيث قدما معا فيلمين هما "دخان" الذي يتناول عبر حشد من الشخصيات، علاقات الحزن والحظ والأبوة. التعاون الثاني مع وانغ كان عبر فيلم Blue in the Face الذي شارك فيه مشاهير مثل جيم هارموش، لو ريد، ومادونا. الفيلم مبني على مجموعة من اللقطات العشوائية غير الخاضعة للتدريب المسبق، والتي صوّرت في أحد أحياء بروكلين.
في عام 1997 خاض تجربة الاخراج المنفرد في فيلم "لولو على الجسر" الذي يعرض انقلاب حياة عازف جاز بعد اصابته بطلق ناري من طريق الخطأ وهو من بطولة هارفي كيتل، ميرا سورفينو، ريتشارد إدسون، دون بايرون، كيفن كوريغان، جينا غيرشون، وفيكتور أرجو. بعده وفي العالم 2007 قدم فيلم "الحياة الداخلية لمارتن فروست" من بطولة ديفيد ثيوليس، إيرين جاكوب، مايكل إمبريولي، الذي يطرح فيه موضوع العلاقة بين الكاتب والحكاية التي يرويها وكيف يتبادلان صناعة المصائر.
عقيدة العزلة
في كتاب "اختراع العزلة" الذي يعرض لعلاقة أوستر بوالده، ينكشف الإطار العام الذي يحكم نظرته إلى العالم والذي تتشكل عبره عوالمه الروائية. ينظر إلى العزلة ليس بوصفها حالة أو خيارا أو نظاما تتشارك في إنتاجه ظروف وسلطات، بل يقاربها على أنها عقيدة "أدرك أنه من المستحيل اقتحام عزلة شخص آخر، إذا كان صحيحا أننا نستطيع يوما أن نعرف إنسانا آخر ولو بقدر ضئيل، فهذا فقط بمقدار استعداده لأن يعرف. يقول رجل: أشعر بالبرد أو يقول شيئا آخر ونراه يرتعش في الحالين، سوف نعرف أنه يشعر بالبرد. ولكن ماذا عن رجل لا يقول شيئا ولا يرتعش؟ رجل كل شيء فيه معاند وكل شيء متملص ومحكم الغلق، لا يسع المرء إلا مراقبة رجل من هذا النوع. أمّا أن يستخلص شيئا مما يراه، فتلك مسألة مختلفة تماما".
يصف أوستر بنية السلطات الحديثة ويفهمها ويحدّدها في أنها تجبر الناس على الإقامة في شخصيات كثيرة
العزلة كما تتبدى هنا، ليست سمة بل عالم مكتمل وطارد للآخر، وعندما يكون الأب هو صاحب هذا العالم فإن ما يفيض عنه هو استحالة المعرفة والتواصل وكأن هناك شخصا قرر أن يحيا كجثة لا تؤدّي محاولات الاقتراب منها إلا إلى الألم واليأس.
في هذا التوصيف، يقرأ أوستر التحولات التي طرأت على العيش البشري انطلاقا من تجربته الخاصة التي يحرص على أن يصبّها في قالب المفاهيم. والده ليس سوى ممثل للعقيدة الأكثر رسوخا وعمومية والتي ترتدي وجوها مختلفة وتمتلك القدرة على التجسّد في أحوال متغيرة ومتناقضة ولكنها تعكس دوما الأمر نفسه، وهو ربط القوة والتمكن والنجاح والسطوة بتلك القسوة الشرسة التي يفرضها المرء على نفسه بتعريتها من العلاقات البشرية والعواطف والغرق في المجهولية المفتوحة للذات والآخر.
تلك القسوة المفتوحة تنشئ وجودا قائما على النفي. لا يمكن معرفة الآخر، فكيف يمكن أن نعرّفه، وتاليا فإن هذا الكائن الممتنع عن التعريف، لن يكون موجودا وحقيقيا مهما حاولنا التحقق من الآثار التي تشير إلى أنه يمتلك حيزا وموقعا وكيانا وسلوكا بل يحضر على الدوام كغياب.
ذلك المدخل الذي يطرحه أوستر في هذا الكتاب، لا يني يتوسع ويتشكل في كل أعماله الروائية، وصولا إلى عمله ما قبل الأخير "1234" الذي يعده تتويج أعماله وذروتها.
على امتداد صفحات الرواية التي تجاوزت 800 صفحة، يرصد الكاتب مسارات مختلفة لحياة شخصية واحدة تنشأ من المصادفات والخيارات التي تُخرج في كل مرة من الشخص نفسه شخصا آخر لا تربطه أي صلة بالأصل الذي انبثق عنه ولا يمكن تعريفه من خلالها.
ولعل أوستر على الرغم من الإيقاع البطيء والوصفي الذي يسود روايته العامرة بالتفاصيل، يذهب في اتجاه التفكير في مسألة السرعة وقدرتها على تبديد الزمان والمكان. فالفترة التي تتناولها روايته والواقعة بين عامي 1947 و1971، قد تبدو طويلة، لكن حشد التحولات التي يرصدها فيها والأقدار المتضاربة التي يغرق فيها بطلها أرتشي فيرغسون، متسارعة وكثيفة وتحيل بشكل واضح على السرعة الفائقة التي تمثل النموذج الغالب على العيش داخل عالم السطوة التقنية الذي فرض العيش في قلاع مسورة بالعزلة والكآبة.
التحولات الكثيفة التي لا يستطيع المرء توقعها ولا إدارتها ولا التحكم فيها أو توقعها، تجعله يتعامل مع نفسه من موقع الغريب والمعادي. العزلة في هذا المقام قد لا تكون خيارا وعقيدة بل مصير مبرم ومحكم ولا يمكن تفاديه.
هكذا يصف أوستر بنية السلطات الحديثة ويفهمها ويحدّدها في أنها تجبر الناس على الإقامة في شخصيات كثيرة بشكل دائم. الخيارات المفتوحة تؤدّي دور استحالة الاختيار، وفي كل مرة نعتقد أننا نمتلك قراراتنا نجد أنفسنا في هوة الاغتراب عن أنفسنا وهوياتنا. الخيارات البسيطة والعابرة يمكن أن تقود إلى تغييرات مصيرية كبرى. السؤال المفتوح الذي يطرحه أوستر في هذه الرواية التي تضاهي حجم رواية "موبي ديك" لهرمان ملفيل، هو ماذا لو؟ لا يترك مجالا للإجابة بل يفتح الباب مشرعا أمام متاهة عمل على رصدها وتوصيفها في كل نتاجه وهي لا تني تتوسع باستمرار وتحفر معالم عيشنا ومستقبلنا.