لم تكن مفاجأة لي أن تطل الطبيبة الدكتورة السعودية سارة بنت فارس عبد الله فيلبي عبر قناة "العربية"، فأنا أعرف أن أسرة عبد الله فيلبي تقيم في الرياض وأنهم سعوديون، وأن ابنيه خالد وفارس قد تخرجا من معهد العاصمة، في أيام المربي المشهور عثمان الصالح. وكم يحق للدكتورة سارة أن تفخر بجدّها، ذلك الرجل العظيم بحق، من كان له حضور مهم في تاريخنا الحديث، فقد كان أحد المستشارين المهمين في ديوان المؤسس الملك عبد العزيز آل سعود، وسيرة فيلبي بلا شك مرتبطة بملكنا خالد الذكر، وشاهد أكبر على استقلالية المؤسس عن بريطانيا وإن كانت المصالح قد تلاقت في البداية، إلا أنك حين تقرأ فيلبي فستبصر كيف كان يتصرف الملك.
في بداية العلاقة بين المؤسس وفيلبي، كان هناك نوع من التوجس والحذر وكثير من الديبلوماسية، كون الرجل موظفا استخباراتيا يعمل لخدمة التاج البريطاني، فعامله على أساس أنه مندوب للاستعمار. ومن تلك البدايات، أن الملك عبد العزيز قد أفشل الخطة التي أمر مكتب الإنكليز في الهند بها وأرسلوا بذلك رسالة مع فيلبي، الذي طلب من الملك أن يغزو حايل أثناء استعار الحرب العالمية الأولى. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يخيب فيها ابن سعود آمال بريطانيا ويرفض تنفيذ أجنداتها.
كانت استقلالية عبد العزيز محط انبهار كبير لدى جون فيلبي بشخصية هذا الأمير العربي الذي يستطيع بكل سهولة أن يرفض مطالب الإمبرطورية التي لا تغيب عنها الشمس. بالإضافة إلى ذلك، كما يروي هو في كتبه العديدة، أعجبه في عبد العزيز أن هدفه واضح، وهكذا بدا لفيلبي واضحا أنه سينجح في تحقيق ذلك الطموح الكبير. وأن الإنكليز لن يستطيعوا أن يلحقوا به ضررا، فقدرتهم البحرية محدودة الأثر في الجغرافيا الصحراوية. كل هذا دعا فيلبي وأغراه لأن يكون شاهدا على العصر، في لحظة تاريخية نعلم اليوم حجم ضخامتها، ألا وهي قيام المملكة العربية السعودية.
في كتب فيلبي قصص كثيرة ومواقف وحكايات مع الملك عبد العزيز، تجلي علاقة الصداقة الإنسانية بين الرجلين
لم يكن هاري سانت جون بريدجر فيلبي رجلا عاديا، بل كان جاسوسا لبريطانيا مثل لورنس، إلا أنه كان نقيضا لهذا الأخير، بل كان بينهما عداء مستحكم أشار إليه محمد جلال كشك في كتابه "السعوديون والحل الإسلامي" وكيف أنهما التقيا في عمّان فتبادلا الشتائم، لورنس يتهمه بأنه قد خان بلاده من أجل ابن سعود، وفيلبي اتهم لورنس بأمور مسلكية معيبة لا يحسن ذكرها. وظهر الاختلاف السياسي النهائي بين الرجلين عندما أعلن لورنس دعم خط بريطانيا التي وقفت مع الشريف حسين بن علي ليكون حاكما للجزيرة العربية، ثم تخلت عنه، بينما أصر فيلبي على أن الرجل الذي يحظى بكل أسباب الانتصار والقدرة على حكم الجزيرة هو عبد العزيز بن عبد الرحمن، وقد بقي هذا التأييد والمحبة حتى نهاية حياة الملك المؤسس.
والواقع أن فيلبي قد أصبح سعوديا فعلا، فمع نهاية الحرب العالمية الثانية أصبح يسير في خط مخالف تماما لسياسة بريطانيا، وصار يعلن وقوفه ضد الاستعمار، وكان يمتدح الولايات المتحدة الأميركية في تلك الفترة لأنها كانت تقف مع الشعوب ضد المستعمرين، ولم يلبث أن قام بدور محوري في طرد العثمانيين من العالم العربي. وبعد استقرار الحكم لابن سعود، صار لفيلبي دور كبير في جلب شركات التنقيب الأميركية للبحث عن البترول، وكان سببا في قيام شركة "أرامكو"، دون أدنى عمولة، وقد عمل في أثناء إقامته في جدة وكيلا لشركة "فورد"، إلا أنه لم يجمع ثروة تذكر.
في كتب فيلبي، وهي ليست بالقليلة، قصص كثيرة ومواقف وحكايات مع الملك عبد العزيز، تجلي علاقة الصداقة الإنسانية بين الرجلين. وفي تصوري أنه من الحسن، كما أن الإنكليز قد خلّدوا ذكر لورنس الذي خدم بريطانيا بفيلم عن قصة حياته فاز بالأوسكار، أن يكون هناك فيلم سعودي بمواصفات عالمية يجلي قصة الحاج عبد الله فيلبي الذي أحب هذه الأرض وانحاز لها وأبقى أولاده وأحفاده فيها.