لا نشكو كعرب من نقص في الأهداف والمشاريع بعيدة المدى. نريد الكثير، بدءا بتحرير فلسطين وصولا إلى إقامة الوحدة الكبرى من "المحيط الهادر إلى الخليج الثائر"، على ما قال شعار راج في ستينات القرن المنصرم.
تنظيم "داعش" كان يريد فتح روما. آخرون لا يزالون يدعون إلى تصحيح خطأ مصطفى كمال أتاتورك بإلغاء الخلافة عبر تأسيس واحدة بديلة، بحسب ما جاء في لافتة رُفعت قبل أيام في عاصمة أوروبية، تقول إن "الخلافة هي الحل".
في العموم، لا مشكلة في المشاريع الخلاصية الكبيرة وأفكار إقامة اليوتوبيا على الأرض. من المهم ومن المريح، على مستوى الأفراد والجماعات الإيمان بأفكار تنتهي إلى تحقيق مستقبل وردي تشكل مهربا ومخرجا من حاضر قاتم وعسير وغير قابل للتغيير. هكذا نشأت عقائد سياسية كبرى كان لها أثر بالغ في تاريخ البشرية. ليس من المبالغة القول إن "الجنات الموعودة" على الأرض، انتهت كلها بفظائع وكوارث. من الرايخ الثالث الذي كان سيجلب السلام والسعادة للشعب الألماني "لألف عام" بعد احتلال "المدى الحيوي" اللازم للمشروع هذا، وصولا إلى ترحيل الكمبوديين إلى الأرياف ليتعلموا الحياة في المزارع الجماعية ويساهموا في بناء الاشتراكية على النحو الذي اختارته جماعة "الخمير الحمر" وزعيمها بول بوت. وهو ما انتهى إلى واحدة من أسوأ الإبادات الجماعية في القرن العشرين. ولا ننسى طبعا "قفزة ماو تسي تونغ الكبرى إلى الأمام".
المشكلة، إذن، ليست في الأحلام والمشاريع بعيدة المدى. بل في الخطط التفصيلية المتعلقة بالمستقبل القريب والحاضر. غالبا ما تبرز المشكلة تلك عند فهم الحاضر وتشخيص القوى المؤثرة فيه ومحركاته وتوازناته ودوافعها وأهدافها، فهماً وتشخيصاً كارثيين، غالبا ما يصدران عن أحكام مسبقة وتورم في تقدير الذات وأهميتها ومكانتها وما تستطيع وما لا تستطيع فعله.
يؤدي التاريخ هنا دورا "ماكرا"، بحسب عبارة هيغل. إذ يخفي مفاجآته وانقلاباته الكبرى وراء رتابة الأحداث المتوقعة والمنتظرة والتوالي الممل لعدد لا يحصى من أيام تخلو من أي جديد، حتى ليظن المرء أو الجماعة أنه ما من جديد سيظهر تحت الشمس إلى أن تنقلب الأمور انقلابها الزلزالي وتسير الأحداث على غير هدى، قبل أن تتكشف قوانينها وضوابطها الجديدة.
خبِرنا هذا "بالطريقة الصعبة". من خلال التجارب الفاشلة والخسائر التي لا تعوض والانهيارات الكارثية، وما حمل كل منها من ضحايا وسجون ومعتقلات ومنافٍ ودمار، ساهم في دفعنا إلى خارج نطاق العالم الحي والمؤثر.
يؤدي التاريخ هنا دورا "ماكرا" بحسب عبارة هيغل. إذ يخفي مفاجآته وانقلاباته الكبرى وراء رتابة الأحداث المتوقعة والمنتظرة والتوالي الممل لعدد لا يحصى من أيام تخلو من أي جديد
المثير للاهتمام أن كل مقاربة نقدية أو مراجعة لأحداث قريبة أو بعيدة، تواجه بالاتهامات بالخيانة والخروج من الملة، وكأن النتائج منقطعة عن أسبابها وأن الحاضر الذي وصلنا إليه لم ينحدر في الزمن عبر سلسلة من التفاصيل الأصغر لتتشكل من مجموعها صورة الحاضر.
هذا الكلام، على عموميته، يبدو ضروريا في ظل ما يبدو كتكرار لأخطاء سابقة، في الحرب والسلم، سواء في فلسطين أو بين العرب ضد بعضهم وضد مواطنيهم، على ما يجري في أكثر من بلد عربي، من السودان إلى سوريا واليمن. ومن شعور "برؤية سابقة" (Déjà vu) لحالات من السير في حلقة مفرغة لا يقود إلا إلى تكرار الأخطاء ذاتها بخسائرها وتكاليفها ولينتج عنها المزيد من الأجيال الجديدة التي تتظاهر وتطالب وتهتف بذات الأساليب والضجيج الذي عرفناه منذ عقود.
والأدهى أنه ليس هناك من يتحمل اللوم أو المسؤولية الضائعة بين صراخ ضحايا أطفال غزة الذين يقتلهم البطش الإسرائيلي من جهة، وجائعي السودان الذين يزداد عددهم بحسب ما تقول الوكالات الدولية من جهة ثانية. فيما تستعد جماعات ودول عربية عدة للدخول في حلقات الموت والعنف.
هل من مخرج؟ هو السؤال الأشد إلحاحا. بداهة هناك مخارج كثيرة. أولها احترام الحقائق والواقع وإدراك المدى الذي يمكن للتغيير أن يبلغه بالقوى الذاتية.