في هذه الأيام يبرز إلى السطح صراع سياسي علني ونادر بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل بخصوص الحرب في قطاع غزة، خصوصا مع تصاعد النقد الرسمي الأميركي لإسرائيل لعدم بذلها جهدا كافيا للتمييز بين المدنيين والمحاربين في حملتها العسكرية في القطاع، الذي تُرجم إلى عدد كبير من الضحايا المدنيين، فضلا عن اتهامها بالتسبب في المأساة الإنسانية الكبيرة التي يعيشها المدنيون. كان امتناع أميركا عن استخدام حق النقض لقرار مجلس الأمن الأخير المرقم 2728، الذي يطالب بوقف عاجل لإطلاق النار في غزة والذي ترفضه إسرائيل بشدة، تخليا عن دور تقليدي اضطلعت به أميركا تاريخيا بحماية إسرائيل من الإجراءات والانتقادات الدولية المؤسساتية ضدها.
وبغض النظر عن المسار الذي سيمضي فيه الخلاف الأميركي- الإسرائيلي تصاعدا أو تراجعا، يختبر هذا الخلاف العلني مقولات سائدة في العالم العربي بخصوص عمق نفوذ إسرائيل في المؤسسات السياسية والإعلامية في أميركا إلى حد قدرتها على التحكم في السياسة الأميركية، على الأقل عند تعلق الأمر بالشرق الأوسط. معظم هذه المقولات مغلوطة، وقائمة على سوء فهم كبير، وبعضها مرتبط أو ناشئ من تفسيرات مؤامراتية وافتراضات عنصرية.
اهتمام أميركا الجدي بإسرائيل يعود إلى عقد الستينات ويقوم، بشكل أساسي، على اعتبارات تتعلق بالمصالح السياسية والاعتبارات الثقافية وأحيانا بقناعات فردية لشخصيات سياسية وليس على هيمنة إسرائيلية أو "يهودية" مفترضة على القرار السياسي في أميركا. فمثلا اعتراف الولايات المتحدة بإسرائيل كدولة بعد دقائق من تشكيل حكومتها المؤقتة برئاسة ديفيد بن غوريون في يوم انتهاء الانتداب البريطاني يوم 14 مايو/أيار 1948 جاء على أساس الرغبة الشخصية للرئيس هاري ترومان، وبالضد من موقف معظم أركان إدارته الرافضة لهذا الاعتراف، ومن ضمنهم وزير خارجيته الذي يكن له احتراما كبيرا، جورج مارشال.
حاجج هؤلاء بأن هذا الاعتراف سيضر بالمصالح الأميركية عبر تقويض علاقتها بالعالم العربي. بخلاف النظرة الشائعة تاليا من أن ترومان الذي أرسل إعلان الاعتراف بإسرائيل بعد أن كتبه بخط يده من دون معرفة وزارة الخارجية التي أغضبها سلوكه هذا، فعل ذلك من أجل كسب أصوات اليهود الأميركيين في انتخابات 1948 الرئاسية ضد المرشح الجمهوري توماس ديوي المتقدم حينها في كل استطلاعات الرأي، فالحقيقة أن ترومان، المعروف بقوة تدينه المسيحي، اعترف بإسرائيل تماشيا مع فهمه للنصوص الإنجيلية التي درسها منذ الطفولة. تحدثت هذه النصوص عن تحرير اليهود من ظلم الفراعنة وعودتهم إلى "أرض الميعاد" في فلسطين، وهو الظلم الذي كان ترومان يعتقد أنه تجدد بأساليب حديثة على يد النازيين الذين تعقبوا اليهود بالقتل. كان يفرحه أن يُوصَفَ بأنه قورش، الملك الأخميني المذكور في الإنجيل الذي سيطر على بابل عام 538 قبل الميلاد وسمح لليهود الذين جلبهم نبوخذنصر بالقوة بالعودة إلى فلسطين وإعادة بناء الهيكل الذي دمره البابليون في القدس قبل ذلك بـ50 عاما تقريبا.