عرفت الموسيقى والأغنية الكثير من التغيرات جراء موجة الحداثة التي جرفت الفن، فطغى الشكل التراثي البسيط وعمّم على كلّ شيء آخر، فبات استخدام مصطلح الأغاني الشعبية غير دقيق، وحامت حوله الخلافات بين المناطق السورية، فأهل الساحل يطلقون عليها ساحلية، بينما تكون جبلية في مناطق متفرقة داخل البلاد، وهو ما يدخل الموسيقى في حركة غير منتظمة، كما في الحركة الفنية بلبنان التي احتوت التجربة الرحبانية وشعر الريف منذ قرابة خمسين عاما بوصفها تراثا غير مادي.
بدأت انطلاقة الأغاني الشعبية في سوريا من الملاهي الليلية، مرورا بحفلات أعراس القرى وسطوح المنازل، ثم ما لبثت أن فقدت طابعها التراثي والنغمي التقليدي لتتحول إلى شكل طاغ، فأصبحت تلك الأغاني شكلا معمما يحاول الجميع تقليده.
بالتزامن مع انتشار الأغنية الشعبية، أطلّ برأسه نوع غريب من الكتابة، فلاقى تصفيق مؤسسات الدولة الثقافية والإعلامية، وظهرت موجة كبيرة من شعراء المحكية، وحملت الأغاني نسقا غريبا، واستحوذ الجانب الصاخب في الموسيقى على كلّ ما عداه، كما نسمع في "ناطر بنت المدرسة" أو "هاجر فوق الرعوشي"، كما حجزت هذه الأغاني حيزا دائما لها في الاحتفالات الرسمية.
وقد ترافق تراجع الأغنية السورية مع غياب واضح لشركات الإنتاج المحلية السورية، مقابل هيمنة الشركات اللبنانية والعربية التي عملت على استقطاب الفنانين السوريين نظرا إلى ذيوع صيتهم في الخارج، وانسحب الأمر على أثر الأخيرة في بنية الأغنية اللبنانية وخلق حالة تنافسية بين الفنين.
عالم جديد
وسّعت وسائل التواصل الاجتماعي الهوة بين الفن الأصيل وذلك الرديء، فباتت الكلمات تكتب على مسطرة غنائية ولحنية جديدة، واستعادت الملاهي الليلية قدرتها على خلق فنانين وأغانٍ تنتشر بين الناس، واستحضرت في لبنان وسوريا معارك حول أحقية الأغنية الشعبية، أو الأغنية التي تكون جملها غير شعرية، وصرنا نشهد صراعا على المذاهب الشعبية الموسيقية عبر المقابلات التلفزيونية، حيث النزاع على مقطع موسيقي مكرر يلبس بكلام عفوي يفتقر إلى أيّ حسّ شعري، وكلما ازداد في الأغنية منسوب البذاءة والصراخ ازداد الصخب والانفعال والانجذاب أيضا.
باتت موسيقى الملاهي الليلية واجهة الموسيقى والأغنية في سوريا ولبنان، وعُمّم النموذج عربيا. الأكثر غرابة هو رد الفعل لدى الأجيال المختلفة تجاه طبيعة الأغاني، خاصة الجمل الإباحية فيها، والجمل التي تتخيل العلاقات العاطفية بأنها صراع لا يدور في نطاق الدراما الحياتية والإنسانية بل يمتلك مقومات الحرب وشعاراتها، أو يحفز دورا عنفيا في العلاقات العاطفية والاجتماعية، "أكبر غلطة بحياتي حبيت واحد واطي". الفئات التي انجذبت الى هذه الجمل هي الأكثر تهميشا على مستوى التعبير الاجتماعي، وغالبية دلالاتها تدور في فلك القوة والسيطرة.
فإن كانت الأغنية الشعبية في أوروبا وأميركا آتية من رحم محاولات تغيير اجتماعي وتمرد الشباب على قيم تنظمها السلطة، فإن أغنيتنا الشعبية آتية من خلل اجتماعي وقيمي، تتكسّر مع كلماتها وألحانها كل منهجية أو جهد لصناعة الفن، ويسود الاستسهال والمضي مع أشد الحالات غرائزية وسوءا في التعبير. جُمل مغناة يمكن رصدها في الملاهي والشوارع، ما يُحرَّم اجتماعيا قوله، يطفو على سطح الأغنية السورية واللبنانية، وأغاني الحفلات التي يستمع إليها الشباب بوضوح. لم تعد الثيمة القديمة لخروج تلك الأغاني من رحم بيئات فقيرة أمرا موضوعيا، بل بات جليا أن الأغنية والفنان تحولا إلى نمط انفعالي وغرائزي، وانتقلت الكلمات التي تحويها الأغاني من بعدها الشعري والفني الملامس للروح، إلى موضوع انفعالي وطريقة للصراخ الاجتماعي الذكوري في كثير من الأحيان.
حرية الإنتاج والمشاهد الجاهزة
ثمة جانب إيجابي للمنصات، بأنها حولت كل موهبة إلى فرصة مشاهدة، لتدخل تباعا ضمن دائرة الاهتمام، ومن ثم تلقى في سوق العمل. لكنّ هناك جانبا مضيئا لمن يحاول تأمين حياته عبر الأغاني والصوت المعقول، فليس الجميع متواطئا في عملية إنتاج البذاءة والجمل التي تُستخدم في الشارع أو بلغة محكية عادية. هناك نشاط ملحوظ لشباب وشعراء القصائد المحكية، ومن الذين يتكئون على التراث القديم وإعادة إدماجه بأنماط موسيقية جديدة. وعلى الرغم من أخطار التغيير في المقاطع التراثية على مستوى اللحن وطبيعة الإيقاعات، إلا أنه يحافظ على جانب جميل من التراث ومن ذاكرة الموسيقى. هذه التجارب كلها ملاذها الوحيد هو الإنترنت ووسائطه المفتوحة.