كان مبهجا خبر فوز الأسير الفلسطيني باسم خندقجي بالجائزة العالمية للرواية العربية، وذلك بإجماع أعضاء لجنة التحكيم، كما أكد رئيس اللجنة الروائي السوري نبيل سليمان، وفي واحدة من المرات القليلة التي لا يؤدّي فيها إعلان الجوائز إلى المعارك الصغيرة المعتادة في الأوساط الأدبية، بين من كان يتوقع فوزه ومن فاز حقا، أو حتى الجدال المرهق حول البلد العربي الفائز، أو حول ألاعيب الناشرين العرب إلخ. هذه المرة استقبل إعلان الفائز بفرحة عارمة، سواء في القاعة التي شهدت الحفل في أبوظبي، أو في الأوساط القرائية والثقافية العربية، فقد كان الإعلان بمثابة انتصار لفلسطين ولغزة الجريحة، وأيضا لقضية الأسرى الذين تضاعفت معاناتهم في سجون الاحتلال منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
سبب آخر للبهجة، هو أن من قدّمت الجائزة إلى شقيق الكاتب وناشرته، نيابة عنه في طبيعة الحال بسبب الأسر، ليست إلا الناشرة والمثقفة البريطانية الكبيرة مارغريت أوبانك، وهو خيار نابع، مثلما يفهم من كلام رئيس مجلس أمناء الجائزة ياسر سليمان، من الوفاء والتقدير لدورها كأحد مؤسسي الجائزة وأعضاء مجلس أمنائها، قبل أن تستقيل من هذا الدور وتركن إلى شيء من الراحة بعد سنوات من الكدح في نقل الثقافة العربية إلى الناطقين بالإنكليزية في بريطانيا والعالم. خيار آخر مبهج لأنها مارغريت أوبانك، تلك المثقفة التي وقفت طوال عقود، مع زوجها الكاتب العراقي صموئيل شمعون، وراء أهم مشروع نشري بالإنكليزية، وهو مجلة "بانيبال" التي توقفت للأسف عن الصدور بعد ربع قرن، لتصدر عوضا عن ذلك بالإسبانية.
قبل "بانيبال" وخلالها وبعدها، أدّت أوبانك في كواليس نقل الثقافة العربية إلى الغرب، دورا عجزت عنه أو تخاذلت فيه كبريات المؤسسات الثقافية العربية
قبل "بانيبال" وخلالها وبعدها، أدّت أوبانك في كواليس نقل الثقافة العربية إلى الغرب، دورا عجزت عنه أو تخاذلت فيه كبريات المؤسسات الثقافية العربية. فلم يكن الغرب قبل أوبانك (ومعها صموئيل شمعون) يعرف عشرات بل مئات الكتاب العرب من روائيين وشعراء ونقاد، بل وحتى عشرات الفنانين العرب الذين أغنوا المجلة برسوماتهم وصورهم. وهو دور لا يقف عند حدود إصدار المجلة أو المشاركة الفاعلة في جوائز ومؤسسات تعنى بالأدب والترجمة، بل هناك الدور الخفيّ الذي يعرفه كثر من المثقفين العرب، وهو دور المحرّك الثقافي، وقد كان للقضية الفلسطينية (ولجميع القضايا العربية العادلة، بما فيها سوريا والعراق واليمن وغيرها) نصيب الأسد من هذه الجهود، وذلك انطلاقا من إيمان راسخ بعدالة هذه القضية، وأهمية ما تنتجه في مجالات الأدب والفن، وضرورة إطلاع القراء في الغرب على هذه التجارب، لكي يروا عن كثب الأبعاد الإنسانية والفردية المتعدّدة داخل هذه القضية، بحيث تتجاوز السياسة والنضال السياسي، إلى مجالات الإبداع وجوهر قيمة التجربة الإنسانية الشاسعة. في إطار هذا الدور أيضا أدّت أوبانك دور المحرّر الرئيس للترجمات الإنكليزية التي كانت تصدر في المجلة، أو في الكتب الصادرة عنها، وهي في حدّ ذاتها مهمة جليلة تعجز عنها مؤسسات بأكملها.
ما لا يعرفه كثر أيضا، هو أن الثنائي أوبانك - شمعون، اللذين تجمعهما واحدة من أجمل قصص الحبّ التي تجمع بين مبدعين ومثقفين، حوّلا بيتهما في لندن إلى حضن دائم لأعداد لا تحصى من المبدعين العرب الذين تردّدوا على لندن وأقاموا فيها، وبعضهم ممن كانوا في حاجة ماسة إلى من يأخذ بيدهم في غربتهم تلك. فكانت أوبانك، حتى وهي لا تزال في ريعان شبابها، أما حقيقية لأولئك المبدعين، وكم من القصص والشهادات التي نسمعها من أولئك المبدعين أنفسهم حول حفاوة الاستقبال ودفء الاحتضان الذي استمر مع بعضهم لأشهر في بيت هذا الثنائي الذي يستحق أن يسمّى عن حقّ بيت الثقافة العربية في بريطانيا.
هذا كله يجعل مارغريت أوبانك بطلة حقيقية من بطلات الثقافة العربية
طوال هذا التاريخ الحافل لم تسعَ أوبانك الى أيّ أمجاد شخصية، ولا استغلّت منابرها للتربّح والاستفادة، أيا يكن شكلها، ولا نذيع سرا إن قلنا إن "بانيبال" الإنكليزية توقفت أساسا لأن الثنائي أوبانك - شمعون، لم يعد قادرا على الإنفاق عليها من موارده الذاتية، أو توظيف الموارد البشرية الكافية للاستمرار في إصدار المجلة بما يليق بها وبتاريخها ودورها. هذا كله يجعل مارغريت أوبانك بطلة حقيقية من بطلات الثقافة العربية، ويمنح قيمة مضاعفة لأن تكون هي من تقدّم الجائزة الأهم عربيا في مجال الرواية لأحد أبطال النضال الفلسطيني من أجل الحرية.