معالم غزة التي اغتالتها إسرائيل كما اغتالت أهلهاhttps://www.majalla.com/node/315811/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%85%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%BA%D8%B2%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D8%A7%D8%BA%D8%AA%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%87%D8%A7-%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84-%D9%83%D9%85%D8%A7-%D8%A7%D8%BA%D8%AA%D8%A7%D9%84%D8%AA-%D8%A3%D9%87%D9%84%D9%87%D8%A7
يعدّ المكان واحدا من أهم مكونات الوجدان الإنساني، فلا يمكن تخيل أي حدث في العالم، دون مكان يحتويه. فالمكان هو مسرح الحركة وموئل الذاكرة، ومن دونه يصعب أن تكتمل الصورة. ومن هنا دأبت البشرية على مرّ العصور على حفظ الأماكن الأثرية، لأنها تختزن الإرث الإنساني، وتروي ما لا ترويه الكتب والحكايات عن تجربة الماضي ومرور أهله فيه.
خلال الحرب الإسرائيلية الضارية على غزة، أقدم الاحتلال على هدم ما يقارب ثمانين في المئة من مباني القطاع، منها ما دمّر كليّا ومنها ما هدم جزئيا.
تحتوي غزة، هذه المدينة العربية الأصيلة، على العديد من الأماكن الأثرية، منها ما يحمل قداسة دينية، أو ثقافية أو تاريخية، والكثير من هذه الأماكن، هدم بصورة تدعو إلى الحسرة والحزن، خلال هذه الحرب المتوحشة ضد كل ثابت ومتحرك في غزة.
تعلق روحاني
خلال هذه الحرب، لوحظ أن معظم الطرق الرئيسة داخل مدينة غزة وشمالها قد أزيل، حتى أصبح الطريق إلى غزة خاليا من المعالم، فاقدا للجمالية والروح، كأنه وجه دون ملامحه. أما المباني فحدّث ولا حرج، إذ لم ينج شارع من التشويه المتعمد بل إن هناك مربعات سكنية دخلها أهلها بعد انسحاب قوات الاحتلال، فعجزوا عن تحديد أماكن بيوتهم فيها. فبات المعلم الأثري الأوضح في غزة الآن، هو ركام المباني على جانبي الطرق.
بات المعلم الأثري الأوضح في غزة الآن، هو ركام المباني على جانبي الطرق
غزة، ذلك المكان الصغير، والمساحة الأكثر كثافة عمارة وبشرا في العالم، تمتد بمربعاتها السكنية المتجاورة والوحدات السكنية المتلاصقة، وتتميز بارتباط السكان بعضهم ببعض، كما ترتبط الشوارع الضيقة بعضها ييعض، والناس هنا متعلقون ذهنيا بقداسة الأماكن، ويقدرون الحجر ليس لأنه جزء من الأرض، بل لأنه يجسد تاريخا ممتدا الى دواخلهم وغذائها الروحاني المرتبط بالديانتين الإسلامية والمسيحية.
من معالم غزة تلك، المسجد العمري، الذي يعود بناؤه الى القرن الخامس الميلادي، ونسب اسمه الى الخليفة عمر بن الخطاب. وهو أكبر وأعرق مسجد في قطاع غزة، بمساحة دونمين، ويقع شرق مدينة غزة. وكان هذا الصرح معبدا فلسطينيا قديما، ثم حوله البيزنطيون إلى كنيسة، ومن ثم المسلمون إلى مسجد.
هذا المكان ليس مجرد حجارة تحمل إرثا دينيا، بل جمالي أيضا، فعمارته تحوي حجارة الكركر، ومئذنته تعود الى الطراز المملوكي في التصميم، وقد تعرضت للهدم من قبل بفعل الزلازل والحروب، وكان آخرها القصف الإسرائيلي لها خلال الحرب الدائرة على غزة. وقد دمرت أجزاء واسعة من المسجد التاريخي نهاية عام 2023.
كل من زار يوما المسجد العمري، يشعر برهبة التاريخ من جهة وبألفة غريبة من جهة أخرى، وكأنه في بيته الخاص، ليجسد المسجد ذلك التلاحم النادر بين الإنسان والمكان، ففيه يتبادلان السلام، وكأن للإنسان روحا تذهب مع المكان وتبقى داخله، وتتفعل كلما عاد إليه.
في المرات العديدة التي زرت فيها المسجد العمري، كنت أشعر بأن راية سلام ترفرف في داخلي، سلام مع الإنسان والنبات والحجر، ذلك الشعور بالاكتفاء والرضا، والحنين والأصالة إلى أشخاص لا أعرفهم، عاشوا من قبلنا ومروا بهذا المكان الأثري النابض بالحياة. لا أعرف هل هو الخشوع أو الرجفة الممتلئة باللذة تارة والرهبة تارة أخرى، هذا الاكتظاظ بالمشاعر، لم يكن سوى يد القداسة التي يمتلكها هذا الصرح الديني.
كل من زار يوما المسجد العمري، يشعر برهبة التاريخ من جهة وبألفة غريبة من جهة أخرى، وكأنه في بيته الخاص
لقد كسر الاحتلال بوحشيته، هذا الجسر بين أزمان مختلفة، فلم يكن هدمه لهذا المسجد هدما للحجر، وإنما لثقافة إنسانية تراكمت عبر الوشائج التاريخية بين المرء والمكان. إذ كان هدما لطبقة استثنائية من الصلاة والعلاقة مع الرب، كان هذا المكان يرعاها.
سفينة
وفي حي الزيتون، شرق مدينة غزة، أقدم الاحتلال على تدمير موقع أثري آخر، هو كنيسة القديس برفيريوس التي لطالما كانت بمثابة مأوى للفلسطينيين خلال الحروب السابقة، يحتمون داخل جدرانها ويلجأون إليها لتفادي القصف العنيف. حينما دخلت هذه الكنيسة أول مرة، شعرت بأن قلبي يخفق من كثافة السماء في داخلي، لم أكن أسمع سوى صوت بعيد ينادي من الزمن القديم: سكون العالم يتحقق بالسلام. على جدرانها تمتد رسومات فنية ولوحات أخاذة، على مساحة مئتي متر. وكذلك تتميز الجدران بثرائها بالنقوش والزخارف والأيقونات الدينية الشاهدة على مراحل تاريخية متعددة، يمكن من خلالها قراءة تاريخ غزة. وكثيرا ما لفتني النص التأسيسي للكنيسة في مدخلها الرئيس، الذي يأتي منقوشا على لوح رخامي باللغة اليونانية القديمة في ثمانية سطور. وتحيط هذا النص خطوط ذهبية وخلفية للنص يمكن من خلالها ملاحظة الصورة الفنية العريقة التي صيغت من خلالها. يبدو للعين المجردة ظاهرا شكل الكنيسة مثل سفينة ترمز إلى طوق النجاة، هذه الكنيسة اكتنزت داخلها رحلة فنية روحانية ترسم التاريخ الديني لغزة، عبر رسومات تحمل الحس الإنساني والشاعرية في ترتيبها وتناسقها، كأنها متحف يمكن ارتياده من كل بقاع الأرض. هذا الصرح الذي يعود تأسيسه الى مطلع العام الخامس الميلادي، قصفه الجيش الإسرائيلي، دون أي اكتراث لقيمته الدينية والجمالية، لقد هدم جزءا كبيرا من هذا الجمال، ومنعت الصلاة داخله، فغاب السلام عنه طوال الفترة الماضية.
مركز رشاد الشوا
في غرب غزة هدم الاحتلال مركز رشاد الشوا الثقافي، التابع لبلدية غزة، الذي يعتبر من أكبر المراكز الثقافية في القطاع، وأجملها شكلا ومضمونا. كانت بداية رحلة كثير من الكتاب والشعراء مع الجمهور الغزي، عبر هذا المكان. وأذكر رحلات الأطفال في المناسبات والحفلات المختلفة وحراكات الثقافة التي احتضنها هذا المكان الذي تأسس عام 1988، ليزيح مرحلة من الجمود الثقافي داخل قطاع غزة، ويجدد دماء الحالة الثقافية المتردية وقتها، بفعل الاحتلال.
كان هذا المكان جميلا، معمارا ومحتوى، فقد ترشح للفوز بجائزة الأغا خان، عن تصميمه الهندسي عام 1992، وكان يتوسط منطقة حيوية في غزة، يمرر لها الجمال والألفة، بطريقة مذهلة.
ولا يمكن إغفال أن المبنى يضم مكتبة ثقافية، هي مكتبة "ديانا تماري صباغ" في طيات رفوفها الآلاف من الكتب القيمة، التي خصصت للقارئ الغزي، مثقفا كان او طالبا.
حديقة الجندي المجهول
بالقرب من مركز رشاد الشوا، تتوسط مدينة غزة حديقة الجندي المجهول في حي الرمال، هدمها جنود الاحتلال، وقاموا بتجريفها ونسف كل محتواها، شجرا وحجرا ورملا.
هذا المكان رافق ذاكرتي منذ البدء، فرأيت داخله الجياد والفوارس في ثمانينات القرن الماضي، ورأيت عودة الروح الى فلسطين مع عودة الرئيس الراحل ياسر عرفات، الى غزة عام 1994. الجميع ممن شهد ذلك اليوم، يذكر كيف احتشدت غزة عن بكرة أبيها في مكان واحد.
هذه المعالم أجهز الاحتلال على مكانتها ومكوناتها داخل غزة، حتى تحولت إلى ركام، غيّب معالم المدينة
كانت حديقة الجندي المجهول حديقة المساكين والفقراء داخل غزة، يجلس فيها من لا يستطيع دخول المقاهي الفارهة، وفيها يلعب الأطفال ويحتسي الأهل المشروبات الساخنة والباردة بأقل التكاليف. وكان للمثقفين نصيب في تلك الجلسات المحتشدة، فالكثير من الناس الذين لم أكن ألتقيهم لسنوات، كنت أراهم في هذا المكان الدافئ بمرتاديه ليل نهار. وكان يتوسط الحديقة النصب التذكاري للجندي المجهول بلونه الأبيض، والذي يرمز الى الثورة الفلسطينية، وقد هدمه الاحتلال، ومن ثم أعادت السلطة الفلسطينية تشييده عام 2000، وهدم خلال حكم "حماس"، من متشددين دينيين، بحجة أنه تمثال يعتدي على محظورات الشريعة الإسلامية.
هذا النصب التذكاري، كان ملجأ الغزيين للأنشطة الثقافية والفنية العامة، كما بقي لوقت طويل يحتضن المسيرات الاحتجاجية والوطنية الفردية والجماعية للسكان.
هذه المعالم وغيرها الكثير، أجهز الاحتلال على مكانتها ومكوناتها وشكلها داخل غزة، حتى تحولت إلى ركام، غيّب معالم المدينة.
إن المألوف أن تتغير الأماكن بفعل حركة الإنسان، واغترابه عن المكان، ولقد اعتبر إدوارد سعيد هذه الحالة من التيه ما بين المكان والذات، مرحلة إعصارية، لا يحتملها الإنسان، حتى بدا منزله حين عاد إليه بفعل التغريب القسري مثل ورم في جسده، لا يستطيع التعامل معه، فقد كانت خيبة عدم القدرة على امتلاك المكان مرة أخرى، أقسى أشكال الخيبة، وبقي خارج المكان إلى الأبد.
هذا الشعور يتكرر اليوم بطريقة اخرى داخل غزة، يعيده الاحتلال على أجساد أخرى، وبطريقة لا تقل بشاعة، فها نحن نعيش نكبة أخرى، تبقينا جميعنا، خارج المكان، وكأن الطريق إلى غزة من جديد بات مجهولا.